انفصال الجنوب: نعيق غراب الرق 

0 50

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم 

.

وقفت في التسعينات خلال تدريسي التاريخ الأفريقي بالولايات المتحدة على مفارقة عجيبة. فمعلوم أن تاريخ أمريكا الوطن يبدأ بعام ١٧٧٦ سنة استقلالها من بريطانيا. ولكن وجدت بين الأفارقة الأمريكيين من يقترح أن نؤرخ لبدء وطنهم ب ١٦١٩ وهو تاريخ وصول أول رقيق من أفريقيا للشاطيء الأمريكي. ولم أتصور أن يصبح هذا الأمر الأكاديمي الصرف وقوداً للحرب الثقافية التي تدور رحاها في المجتمع الأمريكي على أيامنا هذه.

يطرأ لي حين استعيد التاريخ من وراء انفصال الجنوب من موقعي في الولايات المتحدة إنه ربما كان لخير. وسبق لي أن قلت إنه ثمرة مبدأ حق تقرير المصير الذي هو مبدأ للحرية في بناء الأمم. وأكِرم بالمبدأ خاصة في أمة وجدت نفسها في حظيرة (لا أمة) من صنع غاز أجنبي فصّل المستعمرة بما أملت به عليه مصلحته لا مصلحة الأهالي من تحته. وتباكي كثيرنا في أثر الانفصال عوجُ سياسي وإن حسُنت عاطفته.

لا أعرف بلداً موفور موارد العيش مما كانت كفلت له سعادة الدارين ولكنه شديد الكآبة اجتماعياً مثل أمريكا. ومصدر كآبتها الوجودية نعيق غراب الرق على بسيطتها. فكلنا يعرف أنها البلد الذي بذل جهداً سياسياً خارقاً لإحالة علاقات الرق التي انبنى عليها (١٦١٩) للاستيداع، أي التاريخ، ولم يوفق بصورة مؤسفة حتى ليبدو أنه ليتحرك فيها بطريقة مكانك سر العسكرية. فيكفي أن حرباً أهلية اندلعت أهلكت البشر (٦٢٠ ألف قتيل) والحرث بين ١٨٦١ و١٨٦٥ لإلغاء الرق بصورة أو أخرى وما أجدت فتيلا. فغراب بَين هذا التاريخ تنعق اليوم كما نعقت أبدا.

لا أريد الخوض في هذا لتاريخ مجرداً بل أن أريكم له كما يتجسد عياناً بين أمريكيين من لحم ودم. فنشرت الواشنطون بوست (٥ يوليو ٢٠٢١ ) عن خلاف عَنُفَ في مجلس مقاطعة لودون بولاية فرجينا انتهى باعتقال بعض أفراده. وثار الخلاف حول تدريس نظرية العرق النقدية(Critical race theory) لتلاميذ المقاطعة. وهي نظرية ترعرعت في الأوساط الأكاديمية منذ السبعينات وأخذت طريقها منذ سنوات إلى الحياة العامة. وملخص النظرية أن العرقية (racism)، وهي عرقية البيض أهل السلطان في البلد، على السود والبُنيين (من أمريكا اللاتينية) والهنود الحمر، حق، وأنها متغلغلة في ماضي أمريكا ومؤسساتها. فهي ليست شيئاً عابراً لأنها تعبير مؤسسي. ولا سبيل لفهمها ولجمها إلا عن طريق الانصات لروايات من خضعوا لها واعتبارها في دراسة تريخ البلد. ومن مثل هذه الروايات حكاية بنت لأمها في لودون أنها لبت دعوة صديقة بيضاء لمناسبة ما. ففاجأتها المضيفة بقولها لقد دعوتك لأرى كيف ستبدين مشنوقة على فرع شجرة. وفي الواقعة صدى من تاريخ شنق الشجر (lynching) وهي عقوبة كانت توقع على السود متي اشتبهوا فيهم، مجرد اشتباه، بما لا يرضي السادة مثل تفرسهم في وجه سيدة بيضاء. وتريد المناهج التي ستتبنى نظرية العرق النقدية دمج تاريخ الأذى العرقي ومترتباته مثل الحال الاقتصادي المائل، وانسداد فرص الترقي الاجتماعي في التاريخ الأمريكي.

وثارت أمريكا العرقية البيضاء على تدريس هذه النظرية. وطعنت فيها بأنها، بإثارة مثل هذا التاريخ، ستعلم أطفال المدارس أن يكرهوا بعضهم البعض، بل ستجعل الأطفال البيض يكرهون أنفسهم. وجند العِرقيون البيض مجالس الولايات والمقاطعات النيابية لاستصدار قرارات تمنع تدريس النظرية في جامعات الولايات ومدارسها. فصدرت مثل هذه القرارات الناهية لتدريس النظرية بصور مختلفة في ولاية أيداهو وأوكلوهما. وتعد كل من ولايتي جورجيا ويوتا للتشريع ضد النظرية عن قريب. ويزحف قانون لحجب النظرية جهة الكونغرس هذه الأيام لتدخل الحكومة الفدرالية في المعركة.

وتجسد هذا الصراع في لجنتين نشأتا من قريب هما مفوضية ١٦١٩ ومفوضية ١٧٧٦. فواضح أن المفوضية الأولى ترعى نظرية العرق النقدية وتأخذ بداية تاريخ أمريكا بسنة وصول العبد الأفريقي الأسود. وصدر عنها كتاب رعته جريدة النيويورك تايمز تناول تاريخ أمريكا على ضوء النظرية. أما لجنة ١٧٧٦ فكان كونها الرئيس ترمب في سبتمبر ٢٠٢٠ وأراد بها أن تنهج المدارس في تدريس التاريخ تدريساً يحتفي بعظمة أمريكا حتى تحببهم لها. وحل الرئيس بايدن هذه اللجنة حال ما وصل سدة الحكم.

وانعكس هذا النزاع حول التاريخ الأمريكي على مقاطعة لودون فصارت أمتين. وبلغ الصراع فيها من الشدة حتى قالت سيدة فيها إن هذه ليست لودون التي عرفتها وزوجي لربع قرن. ففشت الخصومة ورسائل الوعد والوعيد من الأطراف حتى وصف واصف معركة لودون بأنها مما تتطلع له الأبصار في حرب الليبراليين “الفاكه منهم ديل”.

وللودون القريبة من واشنطن العاصمة، تاريخ في الرق. فكانت بها مزرعة للسكر من ٣٦٠ فداناً يعمل فيها الرقيق السود. وكان ينعقد سوق نخاسة على عتبة محكمتها. وكانت هي آخر المقاطعات التي سمحت بالتعليم المشترك للبيض والسود. وأفسد عليها “نعمى” هذا التاريخ المغلق وفود جماعات من واشنطن لاتخاذها سكناً. فصارت، واقعاً، لودونيين من حول الشارع رقم ١٥. ففي الغرب منه يسكن البيض المحافظون من كبار السن غالباً الذين يدينون بالولاء للحزب الجمهوري. ويسكن شرقي الشارع أسر موسرة من واشنطن تزداد عاماً بعد عام وتدين بالليبرالية. وبلغ من تباغضهما أن تنادى الناس إلى اقتسام لودون إدارياً بينهما ولم يوفقوا.

أمريكا أمة وصلت عنان الكواكب في حين لم يصل بيضها دار جيرانهم السود بعد. فتاريخ الرق ينغص عليها حياتها. وأبيتُ لوطننا، الذي الرق عرق دساس في تكوينه، أن يكتوي بما تكتوى به بلد النيازك والشهب. ومع أننا لم نبلغ من تمكن الرق فينا تمكنه في أمريكا (فليس فينا مثلاً جماعة تاريخية عظمى مثل سود أمريكا عائد أصلها خالصاً للرق) إلا أن تسيس الرق المفرط في صراع المركز والهامش خلال ٤ عقود جعل منه سحابة بيضاء-سوداء تنعق فوق سمائنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.