(ألسنة الخلق أقلام الحق)

0 123
كتب: منعم سليمان
.

في قصة الروائي الكولومبي العالمي “غابريل غارسيا ماركيز” الموسومة بـ: ( أجمل غريق في العالم)، أتت المياه بجثة غريق إلى شاطئ القريِّة، جاء الرجال وحملوا جثمان الغريق إلى أول بيتٍ فيها؛ وعندما وضعوه على الأرضِ وجدوا إنه أطول قامة وأبسط جسماً من الرجال العاديين في قريتهم. فيما بعد، قال بعض من حملوا الجثمان: إنهم أحسّوا وكأنهم يحملون جثةَ حصان، كانت أثقل وزناً من كل الموتى الذين عرفوهم قبل ذلك. تساءل أحد الرجال: عمّا إذا كان ذلك بسبب أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت؟.

بعض نساء القرية تخلين عن وقارهن إزاء جثمان الغريق الجميل المديد؛ المُمدد أمامهن، فيما كان الميّت في غيابه الأبدي لا يكترث لهذا الخيال الواسع الذي أصاب نساء ورجال القرية فجأة. وبينما كانوا يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المُنحدر العسير المؤدي إلى الجرف؛ لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم وخراب حياتهم مُقارنة بجمال هذا الغريق.

وعلى عكس فقيد قصة ماركيز، لم يكن الإمام الصادق المهدي غريباً في أي يوم من الأيام، بل كان رجل أمة عاش حياته بين غرباء، كُنا نحن الغرباء فكريِّاً وسياسيِّاً وكان هو صاحب الدار والأفكار، لم يكن قصير قامة فطالت قامته بعد موته؛ بل كُنّا نحن الأقزام، كان صاحب وزن ثقيل فكرياً وحضارياً، أثقل من وزن حصان القصة، ولكنّا لم نقدر وزنه لخفة أوزاننا، كان مُجدداً وكُنا سلفاً غير صالح، كان عالماً كبيراً في وسط تفشى فيه الجهل واستفحل، كان نظيفاً عطوفاً سمحاً مُتسامحاً، رحمه الله وأسكنه عليين مع الشهداء والنبيين والقديسين، وحسن أولئك رفيقا.

مات المهدي، هذه هي الحقيقة، ولأن مجالس العزاء ليست للوم والتنابذ، وإنما للعظة والعبر، فدعونا نأخذها من وفاته كما فعل أهل القرية في قصة ماركيز، إذ انتابهم شعور عارم بسبب ذاك الغريق الجميل بأنهم أقزام أقل قامة منه، عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية، وإنّهم بحاجةٍ إلى أسقف أكثر متانة وقوة لتحمل مصائب ونوائب الدهر، فقرروا طلاء منازلهم بألوان زاهية احتراماً لذكرى ذلك الغريق، وحفروا الآبار في الصخور وزرعوا الأزهار كي يستنشق بحارة السفن القادمة عند الفجر رائحتها، ولكي يضطر القباطنة إلى النزول من سفنهم وهم يرددون بكل لغاتِ العالم: (انظروا هذه القرية؛ حيث هدوء الريح ينقل شذى الزهور، وضوء الشمس والحياة).

كان آخر ما كتبه الإمام رحمه الله أثناء مرضه: “صحيح بعضنا أحس نحوي في المرض بالشماتة ولكن والله ما غمرني من محبة لا يُجارى، وقديماً قيل: ألسنة الخلق أقلام الحق”، وشخصيِّاً وبقدر انبهاري بكم المحبة الهائلة وسيول الدعوات التي انهمرت على الأسافير؛ وهي تدعو له بالشفاء والعافية؛ فقد تألمت كثيراً وأنا أرى قِلة تنثر الكراهية والشماتة، وهذه القلة إنّما هي ضحيِّة للتجريف الذي ضرب بلادنا في سنوات الحكم العِجاف التي يبّستِ العقول وجففّتِ المشاعر وزرعت الكراهيةِ؛ بعد أن نزعت الحب من الأفئدة والعلم من الأدمغة؛ فاختلتِ القلوب والعقول.

تعلم سكان قرية “ماركيز” الحب بعد دفن الغريب، وهذه هي المسؤولية التي تركها لنا (المهدي) بعد رحيله، خاصة وأن بلادنا يتهتك نسيجها الاجتماعي بفعل السياسات الشيطانية الموروثة من العصابة البائدة، فما أحوجنا إلى ذلك الترابط الذي سكن قلوب أهل تلك القرية، وما أحوجنا إلى نثر الحب في ربوعنا، في جبال النوبة ، دارفور، النيل الأزرق، كسلا، حلفا، بورتسودان، البطانة (أبودليق)، الشمال ،الوسط ، والعاصمة الخرطوم، في كلِ أرجاِء هذا الوطن الفسيح. كما نحنُ بحاجةٍ إلى إظهارِ حُبنا الحقيقي لكافة أهل بلادنا، نحتاج إلى التسامحِ وإشاعةِ روح التضامن؛ لنتجاوز ظُلمة ليالينا الحالكة، وهذا ما تركه المهديُّ فينا لأن أمثاله يشْعّونَ في العتمةِ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.