برنامج الصندوق: شروط قاسية بلا مقابل

0 137

انتهينا في المقال السابق إلى مسارعة الحكومة للشروع في تطبيق برنامج اقتصادي تحت إشراف صندوق النقد، حتى قبل اعتماده من قبل إدارته العليا، استجابة لضغوط مجموعة أصدقاء السودان، ودون إجراء أية مشاورات أو حوار على المستوى الوطني، ولسنا هنا في معرض مناقشة جدوى برامج التكيّف الهيكلي للصندوق، وهو ما نرجو أن ننهض له في مقالات لاحقة على واقع تجربته في البلاد والتي ظلت تتحكّم في مسار الاقتصاد السوداني منذ العام 1978 على اختلاف الأنظمة المتعاقبة. ولكن نريد أن نعرض طرفاً من جدوى هذا الاتفاق مع الصندوق في سياق الحالة السودانية الراهنة، خاصة وأن هذا المسار المفروض يأتي على خلفية مزاعم عريضة من المجتمع الدولي، لا سيما مجموعة أصدقاء السودان التي انتدبت نفسها للقيام بولاية أمره في الفترة الانتقالية والتحكّم في مستقبله، وسط دخان كثيف من المزاعم بوقوفها مع الشعب السوداني ودعمها للحكم المدني ولتحقيق التحول الديمقراطي دون أن تقيم دليلاً جدياً واحداً على ذلك.
(2)
وبعد انقضاء عام من أجل الحكومة الانتقالية، المفترض أنها تحظى بهذه الرعاية المدعاة، فما هي النتائج المتحققة على أرض الواقع بـ”فضل هذا الدعم الدولي”؟، لندع مؤشرات الاقتصاد الكلي تتحدث، فقد ارتفع معدل التضخم من متوسط 53% بنهاية العام المنصرم إلى 143% في يوليو، وهو مرشح للتصاعد بأرقام فلكية خلال الأشهر المقبلة بفعل إجراءات الموازنة المعدلة القاسية بلا أفق ولا رؤية. وانخفضت قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار من متوسط 85 جنيه إلى أكثر من ضعفها، ولا يزال الحبل على الجرّار، ثم جاء خفض سعر صرف العملة الرسمي مقابل الدولار في الموازنة المعدلة من 55 جنيه إل 120 جنيه، أي تخفيضه بنسبة 119%، ومع تصاعد معدلات التضخم المنتظرة، وزيادة الكتلة النقدية، والاستدانة المهولة من البنك المركزي تبقى العواقب الوخيمة مفتوحة على كل الاحتمالات..
(3)
أما “القندول الذي سيشنقل الريكة” فلن يكون سوى حجم العجز الضخم في الموازنة المعدلة البالغ 254 مليار جنيه، الذي قفز لأكثر من ثلاثة أضعاف تقدير الموازنة المجازة في بداية العامة، والذي ستتم تغطية 80% منه بالاستدانة من البنك المركزي، الذي تجاوزت الاستدانة منه في النصف الأول قرابة الضعف، وهو ما يعني ببساطة أنه لن يكون أمامه من سبيل سوى الإفراط في طباعة النقود لسد العجز، وهو ما يقود بالضرورة لتضخم انفجاري.
(4)
هذا المشهد المرعب لحالة الاقتصاد السوداني المندفع بقوة نحو المجهول، الذي وصفته بعثة الصندوق نفسها بأنه “مرّوع”، يطرح سؤال واحدا أين مجموعة أصدقاء السودان؟ وأين وعودها بدعم الحكم المدني؟ وهي تقف تتفرج طوال عام كامل على الحكومة وهي عاجزة عن فعل شيء، سوى التعلق بأمل كذوب لدعم دولي لن يأتي على النحو الذي يفيد البلاد، ولئن كان من حسنة واحدة في بيان الموازنة المعدلة فهي إقراره وهو تعدّد أوجه صرف تعهدات مؤتمر برلين بأن “أغلبية هذه المساعدات لا يمكن استخدامها لدعم الموازنة” وهو ما يعني أن أداء الاقتصاد سيشهد انهياراً لا محالة في غياب هذا الدعم.
(5)
وحتى برنامج الدعم النقدي للأسر فقد شهد انتكاسة خطيرة وكان الظن أنه سيكون حصن الحكومة الحصين كبرنامح حماية اجتماعية للتخفيف من غلواء سياسة التحرير “العشوائية” هذه، فقد تأسست التقديرات على أنه سيغطي 80% من المواطنين بحلول مطلع العام، بتكلفة قدرها البنك الدولي ب 1,9 مليار دولار بمتوسط خمسة دولارات للفرد، وانفض سامر مؤتمر برلين ولم يتم التعهّد له سوى ب 487 مليون دولار، أي بنحو ربع التكلفة فقط المقدرة لها، إذن فمن أين ستأتي الحكومة بمليار ونصف مليار دولار لتغطية هذا المشروع، على افراض جدواه ابتداءً، مما يعني فشله التام عملياً في وقت أطلقت فيه الحكومة وحش تحرير سوق السلع الاستراتيجية بلا أي غطاء لحماية المجتمع.
(6)
تلجأ الدول عادة إلى صندوق النقد الدولي وتتبنى سياساته ليوفر لها التمويل اللازم لدعم الإصلاحات التي يفرضها، فإذا لم يكن الصندوق مستعداً لتقديم مساعدات لا غنى عنها فما فائدة تطبيق هذه الموازنة الكارثية بامتياز؟، لقد بدا في غاية الطرافة أن يرد في صلب بيان موظفي الصندوق “أنه سيواصل دعم جهود السلطات للوصول إلى الجهات المانحة لتعبئة التمويل اللازم لدعم الإصلاحات”، حسناً فما الذي جناه السودان من مؤتمر برلين واقتصاد البلاد ينهار تدريجياً أمام ناظري المجتمع الدولي، اللهم إلا كان ذلك مقصوداً لذاته.
وحتى الهدف البعيد المتوخى من تطبيق الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لمعالجة ديون السودان والمتأخرات فسيبقى بلا معنى في ظل الفيتو الأمريكي باستمرار إدراجه في لائحة الدول الراعية للإرهاب. ويبقى السؤال الحائر لماذا تصر الحكومة الانتقالية على قيادة البلاد نحو المجهول؟ ولمصلحة من؟.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.