بطاحين وكواهلة: بوليتيكا النظارة

0 100
كتب: د. عبدالله علي إبراهيم
.
انفطر فؤاد الأمة الموجوع أصلاً على النزاع القائم بشرق النيل بين البطاحين والكواهلة. وهو النزاع الذي استدعي حظر التجوال بالمنطقة. ولكن أخشى ما يخشاه المرء أن تصرفه صفوة الرأي والحكم عندنا ك”نزاع قبلي” من شاكلة “طرينا الشر لبعده”. فمتي سمعت منها “نزاع قبلي” فهذا إعلان منها بزهادتها النظر المحيط به لتشخيصه وتدبير سبل احتوائه. فالسياسة في نظر الصفوة سياستان: واحدة للقطاع الحديث وأخرى للقطاع “القبلي”. وهي معنيه بالأولى أما الثانية فهي من اختصاص رجالات الإدارة الأهلية بالجمع لا الإفراد. أما وجه الخشية الآخر من هذه الصفوة فهو في انفراط جأشها وهي تتعثر في مثل هذا النزاع القبلي الذي لا تملك له صرفاً ولا عدلا. وستجدها دخلت من هوله في طقس آخر من طقوس معط الذات عن البلد “دا”
تقع عزيمة الكواهلة لقيام نظارة خاصة بها في منطقة البطاحين إلى ما سماه الدكتور اليكس دي وال ب”الجغرافيا الروحية”. وأصلها في قواعد تملك الأرض في الريف. فبين الجماعات فيه من لها دار ومنها عديم الدار المستضاف في دار غيره. وهو وضع تاريخي وجد تقنيناً في سياسات الإدارة الأهلية الإنجليزية. فكانت رتبت لقيام كتل إدارية من القبيلة صاحبة الدار ومن استضافتهم تحت ناظر عموم صاحب دار. وحجر الزاوية في هذا النظام حرمان القبيلة المستضافة من الاستقلال السياسي الذي تاجه النظارة. فمباح لها الانتفاع بموارد الأرض لقاء مكوس ما لصاحب الدار دون الطمع في أي صورة من السلطان عليها فوق مستوي الشيوخ والعمد.
وجاءت هذه القواعد لأعراف الدار في حكم معروف للقاضي هيز في ١٩٥٣ رد فيه قبيلة الهواوير للتبعية للكبابيش يوم أرادت أن تخرج منها لتستقل بنفسها. والمضاضة التي تحسها الجماعة التابعة للمتبوع هي ما عناه إلكس دي وال ب “الجغرافيا الروحية”. وهي مضاضة تفاقمت بالاستقلال. فقد منى الاستقلال مثله بالمواطنة المتساوية. فله كمواطن حق انتخاب رئيس الوزراء بالنواب الذين يدفع بهم للبرلمان ولكنه مجرد من الصوت في السياسة المحلية. فتضيق روح التابع من هذه الجغرافيا التاريخية التي تقدح في استحقاقه المواطنة في وطنه الصغير.
ووجدت التعبير الأكمل لهذا الجرح الروحي في قولة غاضبة من مبروك سليم مبروك، الزعيم الرشايدي لسلمى التجاني. ومعلوم أن أهله جاؤوا للسودان بعد أن اكتملت فيه ملكيات الأرض. قال “ويقال إننا لسنا سودانيين ولا نملك أرضاً. نحن نرفض ذلك. أنا سوداني منذ 1956 ولدي حق في المليون ميل مربع مثل أي سوداني ونملك أراضي تمليك حر”. ونهض مبروك بحركة الأسود الحرة المسلحة في شرق السودان لرد هذا الضيم.
لكواهلة أبو دليق مطلب بنظارة مستقلة عن نظارة البطاحين عائد إلى السبعينات، ولم أجد تعييناً لملابساته تلك أو لانصرافهم عنه لو فعلوا. وتجدد المطلب في وقتنا الراهن في سياق مساعي المجلس العسكري خلق قاعدة سياسية واسطتها الإدارة الأهلية خلال احتدام صراعه مع قحت. فدعت اللجنة العليا لقبائل الكواهلة في هذا السياق الفريق أول حميدتي لمهرجان بيعة بشرق النيل “للسمع والطاعة” للمجلس العسكري في قول خطيبهم. وتباشروا بشرف الكواهلة المنسوبة إلى عبد الله بن الزبير وبوجوهها مثل عبد الله ود جاد الله زعيم كواهلة كردفان التاريخي، كسّار قلم مكميك.
سنرتكب خطأ سياسياً جسيماً إن اعتبرنا ما يجري في شرق النيل “تفلتاً قبلياً” أغرى به الوضع السياسي المرتبك بعد الثورة، أو حرضت عليه الفلول. لربما استثمر الكواهلة حسابات عديلة أو عرجاء في الوضع السياسي المستجد أدنى لمشروعهم. ولكن ما ينبغي التركيز عليه هو أن مطلب الكواهلة بالنظارة، وهي ذروة الاستقلال السياسي في المجتمعات المحلية، هو ما تغري به الثورة نفسها مستضام الجغرافيا الروحية. وعشنا في أعقاب ثورة أكتوبر ١٩٦٤ تراجيديا لهذه الجغرافيا الروحية في نزاع المعاليا والرزيقات أراد به الأوائل الاستقلال بنظارة منهم عن الرزيقات. وشجعهم على خطتهم طغيان شعار حل الإدارة الأهلية فيما بعد الثورة. وفصّل في هذا الخلاف محمد إبراهيم أبو سليم في كتابه “الشخصية السودانية” بحرفية تاريخية وسياسية غير عادية.
وجددت الكواهلة عزيمتها لاستحقاقها النظارة في أوائل ٢٠٢٠. فأعلنت خطتها لقيام نظارتها ليحملها الوسطاء على الإرجاء خشية إفساد ما بينها وبين البطاحين. وبدا أن صبر الكواهلة على الإرجاء نفد فأعلنوا عن مهرجان لتدشين نظارتهم ليوم الجمعة ٢٠ نوفمبر شاع أن الفريق حميدتي سيكون من حضوره حتى نفيه له. وهو المهرجان الذي سارعت ولاية الخرطوم لإعلان حالة حظر التجوال لساعات من يوم الجمعة والسبت والأحد منعاً لصدام كان منتظراً بين الكواهلة والبطاحين متى انعقد المهرجان وخرج الكواهلة منه بنظارة.
لا أعرف كلمة لمحمد إبراهيم نقد أوقع مثل قولة له عن هذه الجغرافيا الروحية. قال إن رفضنا الثوري لهذه العلائق التاريخية الأثرية ليس مدعاة للتهور مسارعة لرميها بإهمال إلى سلة التاريخ كما نقول. فالثورية الحق هي في تلمس طريقنا في شعابها الدقيقة، وامتلاك ناصيتها تغلغلاً في معارفها، وبالتراحم الوطني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.