بغياب أزرق طيبة لم يعد السودان كما كان…

0 111

كتب: صديق عبد الهادي

.

(1)

انتقل إلى رحاب بارئه، في يوم الأربعاء الموافق 10 نوفمبر 2021، الشيخ عبد الله أزرق طيبة، بعد حياة عامرة قضاها في خدمة الدين وأنفقها في الاهتمام بأمور الناس، وفي تعمير دنياهم. انشغل فيها عن حقٍ بالقضايا الكبرى، وفي الزمن الصعب.

فأي رجل من رجالها فقدت البلاد، وأي صفحة باهرة من تاريخها قد انطوت، بل وأي رحلة صوفية ملهمة وثرة قد توقفت.

 

(2)

قيل أن عامل الخليفة عمر بن عبد العزيز على بلاد خرسان، واسمه الجراح بن عبد الله الحكمي، كتب إليه، أي للخليفة، عن خرسان بـ”أن أهلها لا يصلحهم إلا السيف والعصا”، فكتب إليه الخليفة عمر قائلاً: “فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق. فأبسط ذلك فيهم….”. كان الخليفة عمر بن عبد العزيز واحداً من التقاة الذين كانت تؤرقهم مجافاة الحق ويغضهم تطاول الباطل. كان واحداً ممنْ هم على قلتهم تحسبهم “كثرة” من فرط حبهم لأن يستظل الناس، كل الناس، بظل العدل. هذه هي القلة الكاثرة التي خرج منها الشيخ عبد الله، رحمه الله، وتحت لوائها انضوى. فهو، لم يكن من بينها لأن بيده السلطة، وإنما على النقيض، إذ كان منافحاً في وجه منْ بيدهم صولجان السلطة!. امتدت سنوات خلافته على السجادة العركية السامية لثلاثة عقود ونيف، ولكن شاءت الأقدار ان يكون جلها في ظل نظام الإنقاذ “الإسلاموي”. ذلك النظام الذي يعتبر وبكل الشواهد النظام الأسوأ في تاريخ السودان، الذي لا يراصفه في السوأة وفي التنكيل بالناس سوى صنوه التركي السابق!

 

(3)

امتحنت سلطة الإنقاذ، وبأصناف عسفها المختلفات، الناس في كل شيء، وأطبقت على حياتهم حتى ضاقتْ الأرض بأهلها وقلتْ ملاذات أمنها. في لحظات الامتحان تلك استجاب الشيخ عبد الله في بسالة نادرة لنداء الحوبة، وفي شجاعة لا مثيل لها جعل من “طيبة” داراً لأبي سفيان حينما انعدمت الدور الآمنة، وحينما انسدت الأبواب في وجه طالبي الحق. فلقد وقف الشيخ عبد الله شامخاً وصميماً يهش عن الناس إحن الدنيا وهوام سلطانها آنئذ!. لم يكن هناك غيره حين تواترت الخطوب، ولكن قل لي، منْ كان غيره سيكون؟!.

علتْ صيحته الصارمة “الأرض…لا” شاقةً عنان السماء، فانتصبتْ كالسيف، فاصلةً بارزةً ليس في سطور تاريخ المشروع وحسب وإنما في تاريخ “الأرض” في البلاد قاطبةً، وبالقطع، ذلك حينما يتم تدوين “تاريخ الأرض” بكل الصدق، ودونما تحامل. فتلك العبارة الموسومة “الأرض…لا”، ودونما شك، ستندرج في مصاف العبارات الخالدة التي خبرتها تواريخ الأمم، وأصبحت جزءاً من وجدانها.

 

(4)

يتفق الأكاديميون والمفكرون بمختلف مدارسهم على أن للقيادة مواصفاتها التي لا يمكن تمحلها أو انتحالها بأي حال من الأحوال. فهي في أصلها صفاتٌ مجبولة وفي يسيرٍ منها مكتسبة، ومن ارفعها التواضع وحب الناس والشهامة ووضوح الرؤية والاستعداد الفطري لقول الحق والذود عنه ساعة الاقتضاء. انعقدت كل تلك لدى الشيخ عبد الله، بل وبأكثر منها.

الشيخ عبد الله، ومما عرف عنه، إنه رجل متواضع مع وأمام الجميع. يجيد السمع بتهذيب صوفي رفيع، غض النظر عن نوع القول وعمنْ القائل، ومكانته. كان رجلاً كريماً ومجواداً، ضنيناً بالطعام على نفسه بل وحروماً عزوفا، ولكنه محباً لإطعام الناس بيده، أي والله كان يطعم جلساء مائدته بيده، ويقتسم معهم الكوب الواحد محبةً وتبركاً!. إنه، وبفعله التلقائي ذلك كان يعطي الإحساس بالأبوة الحانية.

 

(5)

نعلم جميعنا أن الشيخ عبد الله رجلٌ سياسي من الطراز الأول، وهو راعٍ للحزب الوطني الاتحادي، ولكن في تعامله مع الآخرين لا يضع لذلك إعتباراً ولا يتوسله قاعدة لتحكم العلاقة بينه والناس. فقد كان يستقبل الجميع ويجلس إليهم دونما مدعاة للتفضيل أو الحرج والتكلف. وتلك بالقطع من سمات السياسي الضليع. إنه يتعامل مع السياسة بروحٍ صوفيٍ نقي. فقد كان معياره الوحيد في التعامل هو موقف المرء من العدل والحق. وذلك بالنسبة له أمرٌ لا مساومة فيه. اجتهد عاطلو المواهب ومتواضعو القدرات و”سريحو” “أسواق” السياسة الكاسدة في إلحاقه قسراً وسبغه نكايةً بممالأة الحزب الشيوعي!. وهم أعلم الناس من غيرهم بان الشيخ عبد الله ليس بشيوعي البتة. إن ذلك بالتأكيد ليس بالأمر المهم، وإنما السؤال الأهم هو كيف تسنى أن يتفق الجميع وبل يتواطؤون، وبمنْ فيهم الشيوعيون، على محبة الشيخ عبد الله والانجذاب إليه، وبكل هذه العاطفة الجياشة الجارفة والحميمية الصادقة دون أولياء الله الخيِّرين الكُثر الآخرين؟!.

لا غرو، فالشيخ عبد الله هو سليل الشيخ يوسف اب شرا الذي كتب عنه ود ضيف الله في طبقاته الشهيرة، “وأعطاه الله القبول التام عند الخاص والعام. وأقبلت عليه الدنيا فمسكها ظاهراً لا باطناً. ومع ذلك فيه تقابة للطلبة ويكسي العريان ويطعم الجيعان ويعين على نوائب الدهر ويحمل الكل ويواصل أرحامه. وإذا سمع من أحد تغير خاطر فيبذل له المعروف حتى يرضيه ويقبل عليه”.(374:92)

لم يقبل الناس على الشيخ عبد الله بسبب ذلك لوحده وإنما لدواعٍ عديدةٍ اُخر.

أحب الشيخ عبد الله الفقراء بصدق. أحس همومهم ولم يتخل عنهم أبداً عند الملمات، ولم يكتف يوماً بنصحهم “عند منعرج اللوى” ويذهب لحال سبيله!. فقد كان يحثهم على عمل الأحسن بالقول الحسن، ” يجلس الشيخ عبد الله أرضاً في ردهةٍ تبدو أوسع من تلك التي عند المدخل، وحوله عدد كبير من الزوّار والزائرات. يسمع في أناة وصبر لأناس تأخذ بتلابيبهم ربقة الفقر.. “يا شيخنا ما في حاجة ما عملتها، سرقة سرقت.. قلع قلعت ونهب نهبت، والحال في حالو”، وضوحٌ واعترافٌ على الملأ.. شفافيةٌ تنتقص عتاة “التوجه الحضاري”!… فيرد الشيخ “دا كلو ما تعملو.. أدوهو الفاتحة”، فيرفع الجميع أيديهم تضرعاً وتضامناً. إن ما يهمني في هذا الأمر، وهو بالقطع جديرٌ بالتوقف، هو أن مواقف الشيخ “أزرق طيبة” تجاه الفقر والفقراء، وخاصةً في مشروع الجزيرة، ذات صلة وثيقة بمثل هكذا معايشة، وكذلك لصيقةٌ برؤيته رؤية العين المجردة للفقر يمشي على قدمين!” (48:11)

 

(6)

هناك مأثرة كبرى سيذكرها التاريخ. وهي أنه قد أصبح للتصوف المعاصر في تاريخ السودان مرحلتان، وهما مرحلة ما قبل الشيخ عبد الله وما بعده. نقل الشيخ عبد الله وبشكل جذري حركة التصوف من حالة التساكن المهادن إلى حالة الانحياز لأجل مقارعة الظلم، ومنع انتهاك حقوق الناس بممارسة الباطل. حرر الشيخ عبد الله وبشكل حاسم مفاهيم عديدة من قبضة الخضوع والخنوع والمسكنة ودفع بها إلى رحاب الفعل الحي المقاوم. ولا أدل على ذلك من تقدمه وفي جرأةٍ غير مسبوقة لرعاية حركة المزارعين وقيادتها “تحالف المزارعين” في أحرج لحظاتهما، وثابر على ذلك حتى تمّ انتزاع الحقوق، ومن ثمّ تكفل بحمايتها. ومن هنا كسبتْ وتظل تكتسب، فعلاً لا قولاً، عبارة “الأرض…لا” تاريخيتها وقيمتها الحقيقيتين.

ما قام به الشيخ عبد الله في مواجهة دولة الإسلامويين في السودان، وخاصة في الجزيرة وبما للجزيرة من أهمية تاريخية واقتصادية واجتماعية، يضارع ما قامت به حركة “لاهوت التحرير” في أمريكا اللاتينية. وهي الأخرى، وكما هو معلوم، لم ينج قادتها من رجال الدين المتحررين من الاتهامات الجزاف. ولكنها في نهاية الأمر انتصرت للفقراء والمسحوقين. وأضافت بفضل ذلك تحسناً ليس في الجانب المادي لحياتهم وحسب وإنما اضافت كذلك رصيداً ثراً للإرث الإنساني المعرفي، وخاصة فيما يتعلق بتحرر الدين من قبضة المؤسسات العتيقة وجعله في خدمة مصالح العامة من الناس وفي الدفاع عنهم. وبالمثل، ولكن من جانب آخر، فما فعله الشيخ عبد الله في سنوات خلافته على السجادة القادرية العركية قد وضع مجمل حركة التصوف أمام نقلة نوعية جديدة، أي أمام مساهمة ضخمة ومعتبرة لا يمكن إغفالها في مسيرة الصراع والتطور الاجتماعي ومحاولة ربط حركة التصوف بها. وهي في نهاية الأمر مساهمة أعادت للدين بعضاً من حيويته وأبانتْ من دون شك ومن تحت الركام قدراً كبيراً من جوهر نزعاته التحررية.

فقد يكون أنه لمجمل هذه الأسباب وغيرها أن حدث انجذاب المبدعين والمستنيرين من المثقفين، وبرضا تام، لأن يكونوا في معية الشيخ عبد الله. وتلك بالقطع واحدة من الظواهر المائزة التي وسمت وستظل تسم عصر الشيخ عبد الله وما بعده.

 

(7)

افتقد السودان أزرق طيبة في لحظة فارقة من تاريخه، وفي وقت كان الأحوج إليه فيه أكثر من أي قائدٍ آخر. لأنه ودنما ريب كان سيقولها مرة ثانية لو أطل حكم الفرد، وبمثلما قالها بها للبشير من قبل، “دا قدح دم نحنا ما بندخل يدنا فيهو”!. لله درك ولذكراك المجد. وبالفعل، بغيابك لن يكون السودان كما كان!.

خلّف الشيخ عبد الله من ورائه تركة مثقلة، وشاغراً عصياً على الملء. ولكنه وبنفس القدر ترك سيرة فخمة وملهمة، ستكون زاداً للقادمين والسالكين على طريقه الشائك الصعب.

ندعو لخليفته على السجادة القادرية العركية، الشيخ الريح الشيخ عبد الله ازرق طيبة، بالتوفيق والسداد في تحمل هذه المسئولية المتفردة بعد شيخٍ رمزٍ متفرد، يعد وبكل المقاييس فارعاً في تاريخ سجادةٍ باسقة الدوح.

وفي الختام، صادق التعازي للخليفة الريح ولكافة اهل السجادة القادرية العركية ولمريديه وأحبابه. ونتضرع للمولى عز وجل أن يتقبل الشيخ عبد الله وان يحسن وفادته بقدر جبر الخواطر الذي عرف به، وبقدر المحبة والمودة التي كان يبسطها للناس، وخاصة ضعفائهم، بدون منٍ أو أذى.. والله على ذلك قدير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.