تجربة ثورة ديسمبر ودروسها (3)
1
من نواقص ثورة ديسمبر
رغم أن الثورة نجحت في إزاحة الديكتاتور البشير بعد ثلاثين عاما من التسلط والقهر والنهب، كما نجحت بعد يوم في الاطاحة بمجرمي الحرب في دارفور الفريق ابنعوف وكمال عبد المعروف، ولكن النظام الفاسد ظل باقيا، وكان رد الثوار هو الوجود في ساحة الاعتصام والشارع حتى التصفية الكاملة للنظام الإسلاموي الفاسد بشعار تسقط ثالث ورابع وخامس. الخ، حتي تسليم الحكم لنظام مدني ديمقراطي عبر فترة انتقالية تنفذ المهام التي تم الاتفاق عليها في ميثاق قوى ” الحرية والتغيير”، ورفض أي انقلاب عسكري، يعيد إنتاج النظام السابق والحلقة ” الجهنمية” ديمقراطية – انقلاب – ديمقراطية – انقلاب. الخ، التي دمرت البلاد لأكثر من 60 عاما بعد استقلال السودان . فضلا عن رفض إعادة تجربة انتكاسة ثورة الاستقلال 1956، وثورة أكتوبر 1964، وانتفاضة مارس- أبريل 1985 .
بالتالي من نواقص الثورة في ايامها الأولي أن قيادة الثورة لم تكن جاهزة لاستلام السلطة، ولم يتم اتخاذ التدابير اللازمة لتأمين الثورة مثل :
– التصفية الكاملة للنظام الفاسد وحل كل أجهزته ومليشياته العسكرية وكتائب الظل.
– الغاء كل القوانين المقيدة للحريات.
– استعادة أجهزة الإعلام وتسخيرها لصالح الثورة والشعب.
– تصفية جهاز الأمن وضم كل ممتلكاته من عقارات وشركات للدولة، بحيث يصبح جزءا من الداخلية، يختص فقط في جمع المعلومات وتحليلها ورفعها، وتسليم كل اسلحته العسكرية للجيش، وتصفية كل سجون وبيوت أشباح الأمن، ومحاكمة كل الذين تورطوا في اعتقال وتعذيب وقتل المتظاهرين السلميين ونهبوا ممتلكات الشعب.
– حل مليشيات الدعم السريع وضم كل اسلحتها وممتلكاتها وعتادها العسكري للجيش للدولة ومحاكمة من تورطوا في نهب ممتلكات الشعب ومجازر الحرب في دارفور. لا يمكن ضمان بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة في وجود مليشيات خارج القوات النظامية، في ذاكرة شعب السودان الفوضي التي خلقتها تلك المليشيات بعد الاستقلال في مارس 1954، وبعد ثورة أكتوبر 1964، التي أجهضت الثورة، وتكوين المليشيات بعد الديمقراطية الثالثة التي عارضها الجيش ودورها في أحداث الضعين. الخ، وبعد قيام الانقلاب الإسلاموي الفاسد تم تكوينها والتي لعبت دورا وحشيا في الابادة الجماعية في دارفور.
– تفكيك التمكين في أجهزة الدولة واستعادة كل أموال وأصول وعقارات المسؤولين الفاسدين السابقين التي نهبوها من ممتلكات الشعب السوداني.
– اصدار قوانين ديمقراطية تكرّس حرية النشر والتعبير وتكوين الأحزاب والنقابات الديمقراطية المستقلة.
– اصدار قرار فوري بسحب قواتنا السودانية من اليمن، لا يمكن أن تتحول قواتنا المسلحة ذات التاريخ النظيف المشهود له الي مرتزقة يحاربون في بلد شقيق في حرب لا ناقة فيها للشعب السوداني و جمل، فضلا عن رفض التدخل في الشؤون الداخلية لبلدان أخري، وهذا هدف رئيسي للثورة التي فجرها شعبنا وقدم التضحيات الجسام لمدة ثلاثين عاما.
– استعادة ومراجعة الاتفاقات حول الأراضي والموانئ “حلايب، شلاتين، الفشقة، الأراضي الزراعية الشاسعة التي تم تأجيرها لمدة تصل إلي 99 عاما “، باعتبارها اتفاقات باطلة تمت في غياب الشعب السوداني ومؤسساته الدستورية المنتخبة. ومحاسبة كل الذين وقعوا علي هذه الاتفاقات التي فرطت في السيادة الوطنية.
– اتخاذ قرارات عاجلة لتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وتوفير خدمات التعليم الصحة والدواء والكهرباء والمياه، واحتياجات المزارعين من تقاوي وسماد وتمويل. الخ لوقف التدهور المعيشي والاقتصادي، وإعادة تأهيل المشاريع الزراعية والصناعية والحيوانية والخدمية التي تم تدميرها، مما يرفع من الإنتاج ودعم الصادر وتوفيرفرص العمل للعاطلين، وتقوية الجنية السوداني، وغير ذلك مما جاء في ميثاق ” قوي الحرية والتغيير ” من تمكين للمرأة التي لعبت دورا مهما في الثورة، وتوفير حقوقها الأساسية و تمكين الشباب بتوفير العمل للعاطلين، اضافة للضمان الاجتماعي . الخ. .
– تحسين علاقاتنا مع كل دول العالم، والتفاوض مع المجتمع الدولي الاقليمي من مواقع السيادة الوطنية حول القروض والتعاون علي أساس المنفعة المتبادلة، وخاصة وأن السودان اسقط نظاما اسلامويا ارهابيا، وقام بثورة نالت اعجاب كل العالم الذي تضامن معها.
– عودة النازحين في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق فورا إلي قراهم وتعويضهم عن ممتلكاتهم التي تم نهبها، وعودتهم لحياتهم الطبيعية من زراعة ورعي. وتوفير كل الخدمات لهم من تعليم وصحة وعناية بيطرية بمواشيهم.
– تسليم البشير ومن معه للمحكمة الجنائية الدولية، ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب في دارفور والمنطقتين.
– فتح مسارات الاغاثة التي أغلقها النظام المجرم الفاسد.
كل تلك الخطوات تمهد لوقف الحرب فعلا لا قولا، والتفاوض علي أساس الحل الشامل والعادل ..
بحل وتصفية المليشيات العسكرية وضم كل أسلحتها وعتادها الحربي، ووقف الحرب واستعادة الإعلام لصالح الشعب، واستعادة الأموال المنهوبة، واستعادة مؤسسات الشعب ونقاباته التي بناها بعرقه ولجان الحكم المحلي،كنا سنضمن فعلا لا قولا تأمين الثورة، والسير بها قدما نحو الدولة المدنية الديمقراطية التي تسع الجميع، ويسود فيها حكم القانون، واستقلال القضاء، وفصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، واقرار دستور دائم ديمقراطي بمشاركة الجميع،إضافة لاستقلال الصحافة والإعلام عن الدولة.
2
لكن تلك الخطوات لم تتم نتيجة لاختطاف الثورة بعد وصول الثورة الي ذروتها في اعتصام القيادة العامة، تم انقلاب اللجنة الأمنية للنظام البائد بهدف قطع الطريق أمام الثورة، واستمرت المقاومة باسقاط الفريق ابنعوف،، وخطأ تفاوض قوي الحرية مع المجلس العسكري حول اقتسام السلطة بدلا من كامل الحكم المدني الديمقراطي، ومع اشتداد المقاومة والمطالبة بالحكم المدني، تمت المحاولة الانقلابية في مجزرة فض الاعتصام والتي أعلن فيها البرهان انقلابه علي ميثاق ” اعلان الحرية والتغيير” بقيام انتخابات مبكرة بعد 9 شهور والغاء الاتفاق مع” قوى التغيير” الذي خصص لها 67 % من مقاعد التشريعي، لكن موكب 30 يونيو 2019 قطع الطريق أمام الانقلاب بعد المجزرة، وتكرر خطأ العودة للمفاوضات مع المجلس العسكري، وتم التوقيع علي “الوثيقة الدستورية” المعيبة التي تجاوزت ميثاق ” إعلان الحرية والتغيير”.وتم التنكر من المكون العسكري ل”لوثيقة الدستورية” رغم عيوبها، ولم يتم تنفيذ بنودها كما في البطء والفشل في:
– محاسبة مرتكبي الجرائم ضد لانسانية والابادة الجماعية من عناصر النظام البائد.
– حل الأزمة الاقتصادية ووقف التدهور الاقتصادي، وزاد الطين بلة الخضوع لتوصيات صندوق النقد الدولي برفع الدعم الذي زاد من حدة الغلاء والسخط علي الحكومة مما يهدد بسقوطها، وعدم الاصلاح القانوني والغاء القوانين المقيدة للحريات واستقلال القضاء وحكم القانون، وإعادة المفصولين من الخدمة المدنية والعسكريين.، والانتهاكات ضد المرأة (كما حدث في حالات الاغتصاب التي سجلتها مجازر دارفور واعتصام القيادة العامة. الخ، اضافة للجرائم ضد الانسانية في دارفور والشرق، وانعدام الأمن .
– السياسة الخارجية المتوازنة التي تحقق المصالح الوطنية العليا للدولة، بل تم الخضوع للاملاءات الخارجية كما في تنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي بطريقة فوق طاقة الجماهير استنكرها حتى صندوق النقد الدولي وانتقد الحكومة علي تلك الطريقة في التنفيذ التي تؤجج الشارع وتهدد استقرار البلاد والفترة الانتقالية، والخضوع للابتزاز في التطبيع مع اسرائيل مقابل الرفع من قائمة الدول الراعية للارهاب، فضلا عن دفع التعويض (335 مليون دولار) عن جرائم ليس مسؤولا عنها شعب السودان.
– في تفكيك التمكين واستعادة أموال الشعب المنهوبة، اضافة لتغول المجلس السيادي علي ملف السلام، وتأخير تكوين التشريعي، وعدم تكوين مفوضية السلام التي من اختصاص مجلس الوزراء، والسير في منهج السلام الجزئي والقائم علي المحاصصات حتى توقيع اتفاق سلام جوبا الذي الذي يهدد وحدة البلاد ويعيدنا لمربع الحرب كما حدث في الاتفاقات الجزئية السابقة (نيفاشا، ابوجا، الدوحة، الخ).
– تسليم البشير ومن معه للجنائية الدولية، وإعلان نتائج التحقيق في مجازر الاعتصام ومظاهرات ومواكب المدن (الأبيض، كسلا، قريضة،كردينق، الجنينة. الخ).
– انتهاك حق الحياة في وثيقة الحقوق باطلاق الرصاص علي المواكب والتجمعات السلمية مما أدي لاستشهاد وجرحي، كما حدث في افطار الذكري الثانية لمجزرة فض الاعتصام الذي أدي لاستشهاد ثلاثة من الثوار، وما حدث في محاولة فض اعتصام شارع الستين وماحدث من اطلاق النار أدي الي صابة اربعة من حرس ” الترس” اصابات بالغة، واصابة اثنين اصابات متفاوتة، وحتي مقتل الشهيد ابوعكر.
وأخيرا جاءت اتفاقية جوبا التي كرّست الانقلاب الكامل علي “الوثيقة الدستورية”، ولم تتم اجازتها بطريقة دستورية بثلثي التشريعي كما في الدستور، بل تعلو بنود اتفاق جوبا علي “الوثيقة الدستورية “نفسها، وتكوين مجلس الشركاء، كما قامت علي منهج السلام الذي حذرنا منه منذ بدايته، والذي قاد لهذا الاتفاق الشائه الذي لن يحقق السلام المستدام، بل سيزيد الحرب اشتعالا قد يؤدي لتمزيق وحدة البلاد مالم يتم تصحيح منهج السلام ليكون شاملا وعادلا وبمشاركة الجميع الذي رفضته جماهير دارفور واصحاب المصلحة في المعسكرات، اضافة للسير في منهج النظام البائد في اختزال السلام في محاصصات دون التركيز علي قضايا جذور مجتمعات مناطق الحرب من تعليم وتنمية وصحة وإعادة تعمير، فقد تمّ تجريب تلك المحاصصات في اتفاقات سابقة (نيفاشا، ابوجا، الشرق،. الخ) وتحولت لمناصب ووظائف دون الاهتمام بمشاكل جماهير مناطق النزاعات المسلحة في التنمية والتعليم والصحة وخدمات المياه والكهرباء وحماية البيئة، وتوفير الخدمات للرحل و الخدمات البيطرية، وتمّ إعادة إنتاج الحرب وفصل الجنوب، من المهم الوقوف سدا منيعا لعدم تكرار تلك التجارب.
3
وهكذا استمر نفض العهود والمواثيق كما في تجاوز ميثاق ” قوي الحرية والتغيير” بعد التوقيع علي الوثيقة الدستورية ( المعيبة) التي كرّست هيمنة العسكر علي السلطة، وحتى الوثيقة الدستورية تم نقضها وتجاوزها، بعد ذلك تم تكوين مجلس شركاء الدم بعد اتفاق جوبا الذي فشل، وجاءت مبادرة حمدوك التي تحتاج لقرارات لا تكوين آليات، ولم يتم فيها شئ مما يؤكد استمرار الفشل، بعدها جاء التوقيع الأخير علي الإعلان السياسي لوحدة “قوي الحرية والتغيير” بدون التقييم الناقد لتجربة الفشل السابق، ولماذا لم يتم تنفيذ المواثيق السابقة والانحراف عنها؟ كما هو الحال في كل عمل جاد يستهدف الاصلاح والتغيير، لا فقاعات بعدها تعود الأوضاع الي أسوأ منها، مما يشير الي الأزمة العميقة التي تواجهها سلطة الشراكة التي أوصلت البلاد لطريق مسدود، ولمرحلة فقدان الأمن من الجوع والخوف، وتهديد وحدة البلاد بتكريس السلاح في ايدي جيوش الحركات في المدن اضافة لمليشيات الدعم السريع، وعدم قيام الجيش القومي المهني الموحد.
وأخيرا، لقد اصبحت الحياة لاتطاق، وعجزت السلطة عن الحكم، ويتعمق الاتجاه لوحدة قوي الثورة لتوفير العامل الذاتي، مع نهوض الحركة الجماهيرية والحركات المطلبية لتوفير مقومات الحياة كما في اضرابات اساتذة الجامعات والتعليم العام، واعتصامات الطلاب لتوفير السكن والاعاشة ومقومات التعليم، والوقفات الاحتجاجية لضباط الشرطة المفصولين، واضرابات العاملين والموظفين والمهنيين لتحسين الأجور وبيئة العمل، والوقفات الاحتجاجية للمحامين لتحقيق العدالة،واعتصامات المدن لتوفير الكهرباء والخدمات، ونهوض جماهير الولايات لاسقاط الولاة الفاسدين من عناصر النظام البائد، واحتجاجات الأهالي في مناطق البترول وتعدين الذهب لحماية البيئة وضمان حقهم في الخدمات . الخ، اضافة لمواصلة المواكب والمليونيات والاعتصامات والاضرابات والوقفات الاحتجاجية والمذكرات والعرائض، ومواصلة التراكم النضالي الجاري حتى الاضراب السياسي العام والعصيان المدني والانتفاضة الشعبية التي تطيح بالسلطة، وقيام الحكم المدني الديمقراطي، وتنفيذ أهداف ومهام الفترة الانتقالية.