تراجيديا غابة “كُنْدُوَة” وقضايا البيئة في السودان!

0 83

 

بقلم/ عيسي مصطفي عثمان

أثناء فترة دراستي للماجستير في سلوك وصحة حيوان بجامعة فاخننخن ومركز الابحاث التابعةُ لها في هولندا (Wageningen University and Research Centre)، طرح قسم الأيثيولوجيا (سلوك الحيوان) نقاشًا حول مشروع تحت عنوان Wolves Rewilding (اعادة توطين الذئاب) بعد مئة خمسون عامًا من اختفائها عن البراري والغابات الهولندية.

وكان الهدف من المشروع هو حفظ التوازن البيئ (Ecological Balance) عبر السلاسل الغذائية والتي تنتقل من خلالها المادة العضوية من المنتجين= المنتج الأول (بذور نبات مثلًا) الي المستهلكين = المستهلك الاول (الغزال مثلًا ) والمستهلك الثاني (الذئب) وهكذا بمستويات مختلفة في الهرم الغذائي. ويتم هذا التوازن بين انواع الكائنات الحية بتأثير وتطور عوامل الجينيوم والتكيف البيئي (Adaptive Capacity) وبشكل تدريجى بواسطة نظرية الانتخاب الطبيعي (Natural Selection) بين الأنواع.
طرح مشروع إعادة توطين الذئاب، بعد إجراء عدداً من البحوث والدراسات بواسطة مراكز الأبحاث البيئية والتي أكدت بتزايد أعداد الغزلان والقوارض في هذه الغابات والبراري. وقد اثار هذا المشروع جدلا وحواراً كبيراً داخل المجتمع والمؤسسات الهولندية. اما بالنسبة لنا كطلاب وكذلك الأساتذة والمجتمع العلمى في الجامعة، كان المشروع بمثابة مادة علمية دسمة وخاصة بان هولندا تكاد تكون هي الدولة الوحيدة فى العالم بها حزب للحيوانات، حيث يتبنى قضاياهم عبر البرلمان والمنظمات التي تهتم بقضايا البيئة والحيوان.

اما بالنسبة لي، كان هذا المشروع بمثابة مصدر إلهام وكفكرة يمكن تطبيقها في المحميات البرية السودانية حسب متطلباتها، والتي دُمرتْ فيها الأنظمة البيئية والحياة البرية بواسطة الحروب وتغير المناخ والنشاط الانساني المرتبط بالزراعة والرعي ومتطلبات الطاقة وعدم الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ علي التنوع البيئي (Biodiversity ). تسبب دمار البئية الطبيعية في السودان إلي إختفاء أعداداً كبيرةً من أنواع الحيوانات، الطيور، الزواحف المعرضة للانقراض، اللنباتات النادرة، زيادة مساحات التصحر، نضوب منابع المياة وخلق مزيداً من الصراعاتِ بين المزارعين المستقرين والرعاة المتنقلين حول الموارد.

قصدت من هذه المقدمة الطويلة وربما مملة للبعض لسببين اثنين: اوله هو احترامى العميق للبيئة وعناصرها الطبيعية، وهذا فى حد ذاته نابع من خلفيتي الأكاديمية وخبراتي المتصلة بمجال الحيوان وعلاقته بالبيئة….وكذلك انحدارى من بيئة ريفية وزراعية جميلة وغنية، حيث كانت ذات انسجام وتنوع حيوي كبير، وهي الان أصبحت اراضي قاحلة وجرداء وفقيرة في تنوعها البيئي.
والسبب الثانى للمقدمة وهو الاهم في تقديري، هو إستمرار دمار البيئة الطبيعية والحياة البرية في السودان وبشكل اكثر شراسةً ووحشيةً شمل القتل العشوائي للحيوانات البرية مثل الغزلان والفهود والنمور والافيال والنعام وغيرها وخاصة في المحميات الطبيعية مثل حظيرة “الدندر” و “الردوم” و وادي هور وغابات جبل مرة والنيل الازرق وفي مناطق وسهول البحر الاحمر اخري مختلفة في السودان.

لم يسلم الغطاء النباتى من هذه الاعتداءات علي البيئة من قطع للأشجار والغابات وبمساحات كبيرة. ومثال صارخ لتدمير البيئة، هو إختفاء غابة (كندوة)، لمن يعرفون إيكولوجية ولاية جنوب دارفور، والتى كانت تعتبر من اعظم المنتجعات الطبيعية علي ضفتي وادي “برلي” الذي يشق مدينة نيالا حاضرة ولآية جنوب دارفور والذي يجري من الشمال الغربى الي الجنوب الشرقي.

غابة كندوة هذه كانت تعتبر خط تقسيم المياة لمناطق جنوب السكة حديد الذي يربط نيالا بالخرطوم العاصمة…هذه الغابة كانت محمية بواسطة ادارة الغابات ولها موظفين ومراقبين ومفتشين. كنا نلجاء اليها في رحلاتنا ونزهاتنا ونحن تلاميذ في مدرسة دريب الريح الابتدائية ونيالا الثانوية ….كنا نبحث فيها عن الجمال والهدوء ونقتطف من أشجارها اطيب الثمر وانضر الفاكهة ….تعملنا منها الارتباط الوجداني للامكنة ومساحات التلاقي في رحاب الريف الجنوبي لمدينة نيالا عروس المدائن السودانية.
باختفاء غابة كندوة اندثرت معها كل تلك الجماليات واعداد كبيرة من النباتات والحيوانات واصبحت حركة الرياح والتى تعمل علي تحريك الرمال والاتربة سريعة شمالًا وجنوبًا، مما ساعدت في تقليل خصوبة التربة وزيادة سرعة التصحر لتلك المناطق. تراجيديا غابة كندوة تحدث الان في مناطق “الردوم” و”سونقو” و”كيفياقانجي” وحفرة النحاس (بجنوب دارفور) بواسطة عمليات التنقيب للذهب والمعادن الاخرى عن طريق شركة الجنيد المملوكة لاسرة محمد حمدان دقلو (حميدتي). وهي ذات التراجيديا من قتل للحيوانات في حظائر الدندنر وفي جبال البحر الاحمر وعبر التخلص لمخلفات المدن الصناعية للمواد الغير قابلة التحلل مثل البلاستيك وخاصة مشكلة التلوث البلاستيكي في نهر النيل.

يحدث كل هذا الدمار للحياة الطبيعية في السودان كما لشعبها…..وما زلنا نغني بشعارات الثورة: حرية، سلام وعدالة. ومازال هناك وزراء وكبار رجالات الدولة يرتدون احذية الجلد النمري او يحملون حقائب فاخرة مصنوعة من جلود تماسيح النيل او وسائد فاخرة محشوة بريش النعام او الطاؤوس وهم يتكئون عليها في مكاتب قصورهم البهية. هؤلاء لا يبالون بحياة الكائنات الحية وضرورة حفظها ومنظوماتها الطبيعية، ناهيك عن ادراكهم بأهمية حفظ وصون حياة الانسان السوداني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.