( ثوراتنا وصراع اليمين واليسار )
ما من ثورةٍ من ثوراتنا إلا وكان اليمين واليسار هما المسيطران على مجرياتها. هذا على الرغم من أن الأحزاب التي ننسبها، في السياق السوداني، إلى كل من اليمين واليسار في الإطار القُح، أحزابٌ صغيرة. لكن، يشمل اليمين، في معناه العام الذي يندرج تحت وصف “المحافظة” conservatism، القطاع الأعرض من المجتمع السوداني. ويعود هذا إلى سيادة المزاج الديني على الوعي الجمعي السوداني. وقد فطن الدكتور حسن الترابي إلى هذه الحقيقة، فحوَّل حزبه في مرحلتين مفصليتين في تاريخ البيوت الصوفية وقطاعًا حركته إلى جبهة عريضة، ضمت أشتاتًا توزَّعت بين أكثرية الناشطين في الحقل الديني وبعض من الطبقة الوسطى، إضافةً إلى القيادات العسكرية والطلاب. هذا في حين ركز غريمه التقليدي، الحزب الشيوعي السوداني، على العمال والمزارعين وقطاع الطلاب وبعض المثقفين، خاصة من كان مشتغلاً منهم في حقلي الفنون والآداب، والثقافة بصورة عامة.
اليمين واليسار في السياق السوداني، فيما أرى، تقسيمان أقرب لأن يكونا تقسيمين متخيلين أكثر من كونهما تقسيمين واقعيين تنطبق عليهما التسمية تمام الانطباق. والسبب هو أن السياق السوداني كان ولا يزال، إلى حدٍّ كبيرٍ، سياق غير حداثي؛ أي بلا بنى هيكلية؛ سياسية واقتصادية حداثية. فهما، في حقيقتهما، صدى من أصداء حقبة الحرب الباردة امتد إلى الدول النامية. ظن فوكوياما أن الانفجار المفاجئ الذي أخرج الكتلة الشرقية من المعادلة الثنائية السائدة حينها، قد أسفر عن انتصارٍ حاسم للرأسمالية وثبَّت مكانها سيادة القطب الواحد. غير أن الذي حدث، حقيقةً، أن ذلك الانفجار قد أسفر عن حالةٍ أشبه ما تكون بإعلانٍ عن نهاية عهد القطبية، وولوج العالم متاهةً جديدةً لم تتضح ملامحها بعد.
هذه مقدمة مبتسرة للدخول إلى دوامة صراع اليمين واليسار ومعاركهما الممتدة بثأراتها المتبادلة المنهكة، التي دارت رحاها لعقود في السياق السياسي السوداني. وما أحب أن ألقي عليه بعض الضوء هنا أن ما حدث عقب ثورة أكتوبر 1964 وعقب ثورة إبريل 1985 يعيد نفسه في ثوب جديد عقب ثورة ديسمبر المجيدة 2018. السبب أن بنيات الوعي السياسي وسط القوة السياسية السودانية لم تتغير. فالمعادلة الصفرية التي لا تبحث عن المشترَك مع الغريم السياسي لتُنَمِّيه من أجل خدمة الصالح العام، وإنما تبحث عن محو الغريم واستئصاله وإخراجه من المعادلة كلياً. وبما أن بؤرتي ما يسمى “اليسار” ويسمى “اليمين” بؤرتين صغيرتين من حيث الوزن الانتخابي، فإنهما تجنحان إلى خلق الجبهات العريضة. وفي هذا كان حظ اليمن أكثر بما لا يقاس من حظ اليسار، ولا يزال.
من يراقب المشهد السياسي الراهن يرى بوضوحٍ سعي اليسار، وهو قوى عديدة متضاربة الأهواء، إلى استخدام نهج الشرعية الثورية في الفترة الانتقالية لقلب المعادلة لصالح الكتلة اليسارية، ولكن بلا نجاحٍ يذكر. فهذه الكتلة، لم تملك في كل محاولتيها عبر الثورتين السابقتين أدواتٍ لإنجاز هذه المهمة، وهي اليوم أعجز منها بالأمس. في نفس الوقت أخذت قوى فاعلة كثيرة من ضمنها حركات مسلحة، وقوى يسارية وقادة رأي يساريون، ينتهجون، ما يرونه نهجًا واقعيًا عمليًا يسير في وجهة إدغام قرارهم السياسي في قرار الكتلة اليمينية التاريخية المكونة من الإسلاميين وحزب الأمة. وبين هؤلاء وأولئك يبقى الشارع العريض الحائر، الذي كره الجميع. غير أن الوقت ليس كافيًا لنشوء كتلة ثالثة توافقية معقلنة تقضي على هذه المعادلة الصفرية العقيم. (يتواصل).