ثورة عملاقة اختطفها كالعادة أقزام

0 87
كتب: د. النور حمد
.
كانت ثورة ديسمبر 2018 ثورة بلا قائد. فقد نبعت من روح الشعب وسارت بقوة الدفع التي قيضها لها الإجماع الشعبي منقطع النظير. لكن، قفز إلى مقود عربة الثورة من تحرك غرائزهم البدائية نزعة الاصطياد في زخم الثورات، من أجل الكسب الحزبي الضيق والشخصي. وعموما لم يكن الفراغ البنيوي المزمن المتعلق بعدم توفر قيادات حقيقية، والطرائق الملتوية في إدارة الأمور السياسية في السودان، التي أدمنتها أحزابنا السياسية، لتسمح ببروز قيادات غير هذه التي برزت بالفعل. فالوصف بالقزمية للقيادات التي تصدرت مجريات الثورة ليس مقصودا منه النيل من هذه القيادات، بصفة شخصية. وإنما المقصود منه توصيف حالة التقزم العامة التي ليس في مقدورها أن تنتج وضعا أفضل مما جرى.
ربما لا ينتبه كثيرون إلى الارتباط بين النظم العسكرية التي حكمت السودان، وبين تخلق انقلاباتنا العسكرية المتكررة في رحم الثورات التي سبقتها. فانقلاب نميري 1969 تخلق في رحم ثورة أكتوبر 1964. فلو أدارت القوى السياسية ثورة أكتوبر على نحو صحيح، لما حدث إنقلاب نميري بعد خمس سنوات منها. أيضا، تخلق انقلاب البشير في رحم ثورة أبريل 1985. ولو أن القوى السياسية أدارت ثورة أبريل، على نحو صحيح، لما حدث انقلاب البشير، بعد أربع سنوات منها. ولهذين الملاحظتين عن ارتباط الإنقلابات بالثورات السابقة لها، حيثيات ساندة كثيرة، لا يتسع المجال لسردها. والآن تتكرر نفس الملهاة، التي لم يملك سياسيونا، عبر تاريخنا السياسي لفترة ما بعد الاستقلال، أي قدرة على تجنبها. فهم يقومون بنفس الخطوات، كل مرة، وينتظرون نتيجة مختلفة. وأرجو ألا تنتهي بنا تجربتنا الثالثة هذه مع الثورات، إلى نظام عسكري جديد.
بحكم البنية العسكرية للجيوش، من حيث تسلسل الأوامر chain of command، تملك المؤسسات العسكرية في البلدان النامية قدرة أكبر على إصدار القرارات وعلى إنزالها إلى أرض الواقع. وذلك على عكس القوى السياسية التي تتجاذبها، في البلدان النامية، الولاءات الطائفية والعشائرية والحزبية الضيقة،ح ويسود فيها الخلاف المستدام. هذا الوضع جعل العسكريين يظنون أنهم أصلح للحكم من المدنيين. لكن التجارب العملية أثبتت، وبتواتر كبير، أن هذا التصور خاطئ تماما. فلا جعفر نميري دفع بأحوال البلاد إلى الأمام، ولا البشير كذلك. بل كان البشير أفشل وأفسد حاكم عرفه السودان، ربما منذ العصر الكوشي. الخلاصة، أن العلل الجوهرية المقعدة، المعيقة للنمو، علل يتقاسمها الجانبان.
يقول الأستاذ محمود محمد طه: هناك علتان تحرفان الشخص عن التفكير المستقيم، هما: “الخوف والطمع”. فالمناداة بمدنية الدولة لا تعني استبدال شخص ببزة عسكرية بآخر يرتدي سترة ورباطة عنق. وإنما تعني إسناد القيادة لشخص ديموقراطي فكرا ومسلكا، وصاحب عقل يتسم بالحيدة، إضافة إلى تأهيل معرفي وعلمي، وتعافي تام من علتي الخوف والطمع. أمسك بقياد ثورتنا أقوام لم يعرف الشعب أكثريتهم فأتونا بالوثيقة الدستورية المعيبة. ثم قفزت الحركات المسلحة إلى مقود القيادة بآخرة، فأفرغت الوثيقة الدستورية من كثير من جوهر محتواها. كما قدمت قوى الحرية والتغيير أشخاصا إلى مجلس السيادة، فأصبحت أكثريتهم في صف العسكر. لذلك مجرد المناداة بتسليم الحكم إلى المدنيين لا تكفي. فالمسألة تكمن في الجوهر وليس في مجرد إلصاق بطاقة “مدنية”.
القيادات المدنية التي تصدت إلى قيادة الثورة انتهت بعد قرابة العامين، إلى عجز شامل في كل شيء، وإلى “فركشة”. ومع ذلك، لا ينبغي أن يقود فشلها العسكريين ليظنوا أنهم المنقذين الوحيدين. فتجربة البشير لا تزال ماثلة للعيان في كل شيء، بما في ذلك العوار الذي يحتوش بعض أوضاع المؤسسة العسكرية حاليا. ما يجري الآن يعكس استقطابا حادا واصطفافا في معسكر حملة السلاح وأيضا في معسكر المدنيين. وقد بدأت بعض الحركات المسلحة في شيطنة المكونات المدنية. هذا الوضع المعقد والملتهب لا يحتمل الشد. فهو بحاجة للحكمة وللتوافق. ويقتصي هذا أن تسموا جميع القيادات على تصوراتها المسبقة وكراهياتها لبعضها وهمومها الصغيرة. وهذه أمنية ربما لا تتحقق في مثل أوضاعنا البئيسة التي نعرفها إلا بمعجزة. لكن المعجزات تحدث أحيانا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.