ثَلاثْ ثوْرات وثَلاثة انقلابات في حَياةِ الإمامْ (3- 5)
كتب: ياسر عرمان
.
كانت المرة الأولى التي شاهدتُ فيها الإمام في العام 1984 في سجن كوبر؛ كان في قسم المعاملة الخاصة وكنت من أصغر المعتقلين في قسم الكرنتينة (ب) كان في معيته صديقنا حسن أحمد الحسن والراحلين العم عبدالوهاب غاندي وصلاح عبدالسلام الخليفة وعمر نور الدائم وخالد محمد إبراهيم وميرغني ضيف الله وإدريس البنا متعهم الله بالصحة. حينما خرج الإمام من السجن زار قسم الكرنتينة (ب) وكان على رأس المعتقلين في ذاك القسم الأستاذ التجاني الطيب بابكر ويوسف حسين وألقى حينها الإمام خطبة قصيرة أطلق عليها المعتقلون خطبة (الغُمة الكالحة) لأنه اختتمها باللهم أزل هذه (الغمة الكالحة) .
انقلاب 25 مايو 1969 – الانقلاب الثّاني:
كان الانقلاب الثّاني ومن ضمن أسباب أخرى؛ نتاج للانقلاب على الديمقراطية بواسطة أحزابها وطرد النواب الشيوعيين من البرلمان وحل الحزب الشيوعي؛ ولا يُجنى من الانقلاب سوى انقلاب آخر وعلى عكس عبود مدّت مايو أيديها وتذوقت بشكل (مباشر) طعم الأيديولوجيا بمختلف مدارسها، كانت تجربة انقلاب 25 مايو 1969 هي الوتر الذي تعلّم فيه الإمام العزف على مُقارعة الديكتاتوريات بطريقته الخاصة واكتسب منها تجاربه اللاحقة في التعامل مع الأنظمة الشُمولية، وقد توفرت له مساحة لم تتوفر له في نظام عبود بحكم السن وموقعه القيادي، فقد أصبح من قادة الصف الأول في معارضة نميري سلماً وحرباً- مصالحة ومواجهة .
بالضرورة فإن القوى والمصالح الاجتماعية التي استند عليها الإمام شكّلت ورسمت تكتيكاته وأعطتها طابعها المميز الأمر الذي أغضب في كثير من الأحيان تنظيمات القوى الحديثة. والخلفية والمصالح الاجتماعية والتاريخية للإمام وحزب الأمة منذ نشأة الحزب في الأربعينيات؛ شكّلت طابع التكتيكات التي يستخدمها، وباعتقادي أن الراسم الأول والرئيسي لتكتيكات حزب الأمة والأنصار بعد هزيمة الثورة المهدية هو الإمام عبدالرحمن الذي تعامل مع عواصف العهد الاستعماري بطريقته الخاصة في التّماهي والذي باطنه مواجهة، وطبعت هذه الطريقة المتراوحة بين المواجهة والمصالحة والتماهي؛ وفق توازن القوى وتقديرات قادة الحزب والأنصار في كل وقت ولحظة طبعت نهج الحزب على نحو ما؛ تعامله مع القوى الغاشمة على سدة الحكم بعد الاستقلال وطورها الإمام الصادق بسمات خاصة ولا سيما أنه الأطول في من تولى قيادة الحزب لما يزيد عن خمسة عقود وتعامل خلالها مع تقلبات الحياة السّياسية صعوداً وهبوطاً مع احتفاظه بأوراق حزبه في اللعبة السياسية، وكان يترك خياراته كلها مفتوحة والأبواب مواربة ومشرعة (يشد أكثر من حلة في نفس الوقت) مع احتفاظه بنواة صلبة حول قيادته ويقبل بالمخلصين وغيرهم في صفوف الحزب فهو حزب لا ضفاف له لا يمكن أن تكون قيادته مثل أحزاب القوى الحديثة والنخب، هذا النهج اصطدم في كثير من الأحيان بالقوى الحديثة وأثار غيظها وحنقها في أحيان كثيرة.
كان الإمام يدرك ذلك؛ ويتقن التعامل معه .
كانت السياسة بعد الاستقلال تدور حول أحاديث مركز السلطة الرتيبة بين الأنصار والختمية والاتحاديين وحزب الأمة وبين اليسار واليمين، ولكن في نهايات عهد نميري ظهر مارد جديد في مسرح السياسة السودانية في 16 مايو 1983 ظهر جون قرنق ديمبيور والحركة الشعبية لتحرير السودان على مسرح الأحداث بأطروحات جديدة ووضعت أسئلة وعلامات استفهام كبيرة تخطّت المشروع الوطني القديم بل طرح جون قرنق إجابات لتك الأسئلة حينما طرح رؤيته (رؤية السودان الجديد) وقفزت قضايا المواطنة ونظام الحكم وكيف يُحكم السودان قبل من يحكمه وقضايا الثروة والترتيبات الأمنية إلى الصدارة ولم يكتفِ جون قرنق بالحديث بلسان جنوبي فصيح بل تحدث بلسان سوداني أفصح وأنضج من كل من سبقه من قادة هامش السودان وطالب بالرجوع لمنصة التّكوين وعقد المؤتمر الدستوري والاعتراف بالتنوع التاريخي والمعاصر وبعدها خرجت كل أطروحات وحركات الهامش من معطف قرنق في ثوب جديد وأصبح العمل المسلح أداة وطنية يسمع صوتها في قلب مركز السلطة لا في ريف الجنوب البعيد فحسب. كان هذا بمثابة تغيير جوهري لن يكون بعده السودان مثلما كان كما تنبأ قرنق نفسه، وكان على الإمام أن يتعامل مع هذه المتغيرات الجديدة وسيتفق ويختلف الناس لمدة طويلة حول الكيفية التي أدار بها تعامله مع هذه المتغيرات حاكماً ومعارضاً وسأتطرق لعلاقته مع قرنق وعلاقة حزب الأمة مع الحركة الشعبية في مقال منفصل .
6 أبريل 1985- الثورة الثانية:
لعب الجنرال عبدالرحمن سوار الدهب والأستاذ محمد إبراهيم نقد؛ دور القابلة للفترة الانتقالية والتي سهلت انتقال عام 1985 كل في مداره الخاص دون التقليل من أدوار الآخرين ودور الشعب نفسه في المقام الأول؛ فسوار الدّهب لأسباب تحتاج إلى بحث واستقصاء بجوانبها الموضوعية والذاتية والشخصية المتعلقة بتكوينه وقناعاته وعلاقاته بأطراف المجتمع والعمل السياسي، ألْجم وحده أو مع آخرين؛ الجيش وسلم السلطة في عام واحد ووقتها كانت القوى الوطنية والديمقراطية لا تزال تتمتع بوجود في القوات المسلحة وهي تجربة يدور سؤال كبير حول مدى انطباق شروطها وصلاحيتها الآن، بعد أن جرت مياه كثيرة في نهر القوات المسلحة منذ الدفعة (40) والوحدات الفنية التي تخرجت من(رحم التمكين) وبعد أن أضحت مؤسسات الدولة كلها لا تحمل مرآتها صور الماضي من عهد عبود وأكتوبر وأبريل وسنوات بُعيد الاستقلال وأصبح الدين نفسه يعاد مجده بدماء الناس لا بمسابح الصوفية .
الأستاذ محمد إبراهيم نقد وزملائه ألْجموا اليسار وحدّوا من طموحاته في السّلطة وحصر أولوياته بأن لا يعلو صوت فوق صوت الديمقراطية ولم ينجُ من إغضاب جماعات وأفراد في اليسار وهو مدرك أن حزبه قد خرج من معركة طويلة منذ 25 مايو 1969 مرورا ب19 يوليو 1971 ومجازر الشجرة وقبلها كان حزبه مُثخناً بجراح ثورة أكتوبر وحل الحزب واستخلص وزملائه درسهم الخاص بهم وانحنى نقد لعواصف كثيرة ورأى أنها الطريق للحفاظ على حزبه ووثّق علاقته بحزب الأمة، وكيفية التعامل مع حزب الأمة والحزب الشيوعي موجودة في أضابير أرشيف الحزب ومفكره الأول الأستاذ عبدالخالق محجوب والذي كان بإمكانه أن يرى حزب الأمة وقبة الإمام المهدي من فسحة منزله في أمدرمان، كان عبدالخالق ذكيا ومفكرا وشجاعا ومنفتحا على دراسة خصائص المجتمع ومتغيرات الحياة السياسية الاجتماعية بعمق وقد اهتم عبدالخالق بموقع السيد الصادق المهدي منذ بدايته الأولى وبذل مجهودا في تكييفه والتكيّف في التعامل مع حزب الأمة منذ أخريات سنوات الاستقلال وفي سنوات عبود وحتى 19 يوليو 1971.
حكى لي الأستاذ التجاني الطيب بابكر أنه؛ والأساتذة عبدالرحمن عبدالرحيم الوسيلة والجنيد علي عمر كانوا يتسامرون ذات أمسية في القاهرة قبل مغيب شمس الأربعينيات، فاقتحم سمرهم أحد الشباب الذين قاموا بتجنيده وكان حديثه مقعرا و ( شليقاً) وأخذ يوجه أسئلة متتالية ويقذف بها الأستاذ عبدالرحمن عبدالرحيم الوسيلة على شاكلة؛ كيف ستتعاملون مع أحزاب الإقطاع وشبه الإقطاع والأحزاب الكمبرادورية فأجابه الوسيلة (ياخي إذا إنت قاصد السيدين، عبدالرحمن والميرغني ياخي ديل أهلنا لمن نرجع بنعرف نتعامل معاهم كيف).
في جوبا في مؤتمر قوى الإجماع بعد ما يزيد من نصف قرن عن أمسية القاهرة، كنت في أمسية مع الأستاذ محمد إبراهيم نقد ونصر الدين الهادي المهدي والعقيد كمال إسماعيل وبخفة ظله المعهودة قال (ياخي الجماعة ديل ناس نصرالدين وشايفك قبيل مع علي محمود حسنين، الجماعة ديل طبعا نحن محللنهم طبقيا وسياسيا وفكريا زي ما انت عارف ونحن عارفين مصالحهم الطبقية والاجتماعية، لكن خليك قريب منهم نحن إن فاتوا بعيد نمسك جلاليبنا بسنونا ونجيبهم راجعين…. أو هكذا عبر) كل ذلك لا يغفل المعارك التي دارت بين أطراف الحياة السياسية والتحالفات ولا يضع أيّاً من أطرافها في مكان معصوم ومقدس ولكنه يطرح قضية هامة هي كيفية إنجاح الانتقال الحالي إلى نظام يحقق الديمقراطية والمواطنة بلا تمييز والعدالة والتنمية المستدامة في واقع الحياة لا في واقع الأحلام، ويجنبنا فشل تجارب الانتقال، إن هذا يستدعي مراجعة كافة التجربة السياسية واستخلاص دروس فشل الانتقال لكي نتعلم كيف نبني نظاما جديدا دون إقصاء أطراف من القوى الوطنية والديمقراطية وهنا الحديث لا يشمل المؤتمر الوطني، بل يشمل كيفية بناء كتلة لإنجاح الانتقال من قوى الثورة والتغيير، ولذا مرت في خاطري أحاديث الأمس مع التجاني ونقد والإمام وقرنق ودون أن يكون أي طرف على حق طوال الوقت وبمعزل عن الآخرين ودون إغفال الأخطاء والتساهل في المحاسبة السياسية والتاريخية ولكن نجاح الانتقال يعتمد على بناء كتلة انتقالية لا يوفرها أي طرف من الأطراف لوحده وهنا تكمن المعضلة وضرورة التكتيك السليم.
انقلاب 30 يونيو 1989
على الرغم من أن عبدالرحمن سوار الدهب والحركة الجماهيرية وقوى الانتفاضة تمكنوا من الإمساك بلجام الجيش وألزموه دوره في تسليم السلطة وقام نقد وزملائه بدورهم في اليسار لإنجاح الانتقال؛ ولكن ذلك كله لم يمنع الانقلاب ولم يستدم الديمقراطية لأن قضايا البناء الوطني الأخرى كانت غائبة أو مغيبة والحرب تصم مدافعها الأذان ومعظم المهمشين غير مهتمين بما يدور في البرلمان وقد أدمى أرجلهم غياب المواطنة وانقسام الحياة السياسية نصفين، نصف يكتفي بالحقوق والحريات المدنية التي لا تشمل المواطنة، ونصف آخر مهتم بالمواطنة ولا يربطها في معظم الوقت بالديمقراطية وإن لم يلتقِ الجيشان لن تقع الحرب وإن لم يلتقِ النصفان لن يبنى الوطن.
قام الجميع بدوره للوصول إلى الانتخابات وغادر سوار الدهب كرسي السّلطة وجلس الإمام وحصل الدكتور الترابي على انتصار انتخابي قابل للتطوير ولكن د. الترابي بدلا من ذلك كانت عينه على 19 يوليو1971 والنجاح الفني والعسكري الذي أصابها دون أن يدرس تكلفتها السياسية، كان يريد أن يقود ثورة إيرانية يكون مرشدها الأعلى على فوهة انقلاب عسكري وخطط بإتقان عبر تنظيمه العسكري، فالعساكر في معظم الوقت حرّكتهم الأحزاب، وأنهى الفترة الانتقالية بانقلاب في صباح الجمعة 30 يونيو 1989 والذي سيُكرس ……
نواصل…