جمهورية أعلى النفق
كتب عبد العزيز بركة ساكن:
عندما خرجت جموع الشُعوب السودانية بكل اطيافها : الشباب والشابات والكهول والأطفال من كل فج وجِه، من بيوتهم في ذلك اليوم المشهود له – يوم 6 ابريل 2019، كان خروجهم لهدف واحد يتمثل في شعار: حُرية سَلام وعدالة. وكانوا على علم، ويعرفون تماماً، أن هذا الشعار لا يمكن تحقيقه – إلاّ بسقوط سُلطة المؤتمر الوطني المسنودة من الحركة الإسلامية بقيادة الأخوان المسلمين، والأرزقية ما يُسمى بالكيزان.
والكيزان في حقيقة الأمر ليس سوى مجموعة من الملاقيط غير أيدلوجية، تتكاثر مثل الذباب على القَيْحِ حيثما وجدت المصلحة، عَطْسَةُ بنات آوى تُطَعَمُ على المُهْمل من الجيف.
كانوا يعرفون جيِّداً، أن الحلم لا يتحقق بمجرد إزالة كل هؤلاء، ولكن بدولة رشيدة ديمقراطية وطنية، أقصد دولة العدالة، وتلك لا تتحقق إلاّ في ظل حكومة علمانية تقف في مسافة واحدة من كل المواطنين وكل الأديان وكل المعتقدات والأفكار، دولة الحريات الشخصية والسياسية: وطن للجميع دون تمييز سلبي ضد قبيلة أو دين أو عنصر أو مكان أو لون.
وبنوا هذا الوطن اليوتوبيا، على ساحة الاعتصام في ميدان القيادة العامة، في صورة شبابيِّة، و أعطوها مسميات بلغة الشارع الذي لا يخون، الشارع الذي يثقون به ويثق بهم:
عندك خت وما عندك شيل: شعار للتعاون والتعاضد والاشتراكية في أبسط صورها.
رصيد مان: شعار للتواصل.
جردل مان: شعار للمقاومة والإصرار والتحدي والتضحية.
برد مان: رمز لاستراحة المحارب، الذي لا ينوم ولكنه يلتقط أنفاسه لمواصلة معركته الحتميِّة.
وكيف مان: رمز لمشاركة الأمزجة وضبط الكيف، فالمحارب يحتاج للترفيه.
هنالك الماجدات، نساء وفتيات وادي هور، الذين جئن من اقاصي غرب السودان، من ذلك الوادي الجريح الذي قال عنه جنجويد ذات نشوة: “لقد قتلنا الله في وادي هور”، جئن بالدامرقي، والعصيدة، وإمتكشو، والكول والمصران والشرموط، لإطعام الثوار.
كنداكات الخرطوم العظيمات، حفيدات أماني تور، وأماني شخيتي والملكة نصرة: جئن بالكسرة والتقلية والزلابية والخبز وسلطة الأسود، جئن بالأناشيد الوطنية والطعمية.
الأطباء ملائكة الرحمة: من أجل المرضى والجرحى والحزانى.
الطلاب النشطاء: “قدموا الوعي ما استطاعوا”
الأطفالُ المشردون أطفال الشوارع: أتوا بالهتاف، أتوا بمقدرتهم على مقاومة القهر، شاركوا بأحزانهم النبيلة، وشاركوا بجلوسهم البهي على خيم الدرس، شاركوا بإستعدادهم للوعي وقهر الجهل، ثم شاركوا بدمائهم على التروس، شاركوا بلغة الرندوك.
وتحت طبول و إيقاع الجسر وَقَّعَ الجميع أزمنة الثورة بقيادة، جمهورية أعالي النفق.
كولمبيا الحزينة، كولومبيا المغدور بها، كولومبيا مملكة الروح ومقام الإنسان: كانت تعزف على الجانب الآخر مدائح الغد بطريقتها الخاصة، برجالها ونسائها ودمها الذي استبيح وأسمعا الذي تنكر عليه مدعو الفضيلة المنافقون.
انشأوا دولتهم: جاءوا من الدمازين والجزيرة وعطبرة الرهد وسنار والرصيرص وأمروابة وكادقلي والدلنج والدبة ونيالا وأبو حمد ودنقلا. من الأبيض والدامر درديب وبورتسودان وكسلا والفاشر وخشم القربة والجنينة والقضارف: جنقو وتربالة وفحامة وبناؤون ومغنون وطمبارة أساتذة وأطباء وبائعات شاي وسيدات منازل طلاب ولصوص وشرطيين وعساكر شرفاء وشحاذون، واولاد حرام ومشردون وكتاب وشعراء وسياسيون وسكارى ولاجئون ونازحون واتقياء ورسل وانبياء كذبة وانبياء “بين بين” مغنو راب وقونات وأبو عركي البخيت.
وشارك التراب والحصى والرمل: كتروس للحراسة.
شاركت الريح والامطار والسحابات والغبار والليلُ:
” يا سيدي المسيح،
بحق الجُرح النازف في خاصرتك،
بحق قَرَنْفُلاتِ دمك الذكيِّ..
عَكَّر الليلَ على الجُنود !”.
أقاموا صلاتهم جماعة، مؤذنهم ثوري، ناقوسهم ثوري، أمامهم ثوري، مأمومهم ثوري، الأرض التي أقاموا عليها صلاتهم كانت ثوريِّة، الرب الذي صلوا لأجلهم ثوري: “كل يوم هو في شأن”.
شعراء ومسيحيون ومسلمون وملحدون وكجوريون وعبد الله ديدان.
إنهم جاءوا لينتصروا، وجئن لينتصرن. بنوا يوتوبيا تخصهم، يوتوبيا تخص أحلامهم، يوتوبيا بقدر المحبة التي في قلوب امهاتهم، يوتوبيا من أجل الانسان الحر النقي الجميل، يوتوبيا من أجل تحقيق حلم الشهداء والجرحى والثكلى والايتام: ثلاثون عاما من الديستوبيا عاشتها الشعوب السودانية. حان أوان الحلم ليتحقق، هنا والآن.
كانوا يعرفون أن الشر يحيط بهم من كل جانب: عسكر مدججون بالأسلحة الثقيلة، جنجويد يمتطون ظهور لاندكروزرات يتمنطقون بالدوشكا. رجال أمن مثل كلاب مسعورة يختبئون ما بين البيضة وقشرتها. كيزان يلعقون السنتهم في تشهيِّ للفرائس.
متآمرون يحيكون الحيل في مخابئ مظلمة. أخوان مسلمون يجتمعون بين هنا وهنالك، يوسوسون بألسنتهم الشحمة.
طلاب مؤتمر وطني يعدون الأسلحة الخفيفة وينشدون في سرهم: “أو ترق كل الدماء”.
سياسيون يهرولون في بحث عن مخرج مما سيحدث أو مدخل شهيِّ إليه إذا حدث. دُول تدَّعِي الصداقة، تدُسُّ السَّمُّ في الدَّسَمَ.
صحفيون عملاء يدبجون المقالات من أجل كسر الروح المعنوية للثوار. إذاعة وتلفاز يذيعان خُطبا خرساء للقتلة وهم يتَوَعّدون الثوار بالذبح والويل والثبور. وفي مكان ما، يقبع المخلوع مخلوعاً في متاهته، يسيل لُعابه على لحيته ولحى السدنة تحت رُؤُوس مطأطأة، يفكرون فيما ستؤول إليه أموالهم وعماراتهم ومدخراتهم إذا نجحت الثورة: “فلنقض عليها”.
هنالك شيخُ تنبل للحاكم يهمس كل لحظة في اذن المخلوع: “اقتلهم، اقتل نصف الشعب، اقتل ثلثيه”.
ولكن الثوار كانوا لا يفكرون في الموت، بل كانوا يفكرون في الحياة، لذا: إنتصروا.