جيل الصدي: أو العجوز القاعده بره
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
2003
لقيت قبل أن أدخل مكتب البريد هنا مجموعتين من الرجال الطاعنين في السن وقد تدثرا بثقيل الثياب في يوم بارد جداً. وفي أقصي المبني وقف رجلان علي سمتهما هيئة سانتا كلوز يجمعان التبرعات باسم الصليب الأحمر لأعمال الخير في شهر ديسمبرهم المبارك. وهذا مشهد عام يتكرر في مثل ذلك الموسم ، وأمام كل الأماكن المقصودة. أما الرجلان الآخران فقد حمل كل منهما لافته في التكريه في حرب العراق. جاء في اللافتة الأولي “لتعد قواتنا بجاه العيد المبارك”. أما الثانية فقد حملت إحدي الوصايا العشر القائلة لا يجوز أن تقتل. وكنت في طريقي الي مكتب البريد قد مررت بشارع برودواي وقد انتشرت لافتات مغروزة في سوح المنازل تحمل آراء أصحابها في الحرب. وتقرأ من نافذة العربة اللافتات التي تدعو الي دعم المحاربين بعودتهم الي وطنهم وتلك التي تدعمهم بغير قيد وشرط. والأولي من خط مستنكري الحرب والثانية هي خط مؤيدي الحرب. ومن أجمل ما سمعت في الدفاع عن خلاف الأمة وحربها دائرة في مثل العراق قولهم: يضحي جنودنا ف في ميادين الحرب لكي نتمتع نحن بنعمة الخلاف الذي هو “السعة” في قول سائر.
تمنيت من الله لدي رؤية العجوزين المقاومين للحرب أن أبلغ عمرهما ويكون لدي ما يزال هذا العزم والشغف بالإدلاء بدلوي في أمر العالم. فقد شاع عنا أن المباديء هي صنو الصبا ولا تشيخ مع المرء. ولعل أجمل ما قرأت عن المبادئء والعمر ما ورد في نعي بول سيمونز، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي السابق عن الحزب الديمقراطي. فقد كان عضواً باللجنة التي استجوبت كليرنس تومسون قبل إجازته عضواً بالمحكمة الأمريكية العليا. وقال توماس في معرض شهادته إنه كان يعتقد في سني شبابه أنه سيغير العالم. فرد عليه سيمزنز: “ما يزال بعضنا يعتقد أن بوسعه تغيير العالم”.
وكان سيمونز يعتقد أن مهمة الحكومة الأخذ بيد الناس في حين يريد لها المحافظون أن ترفع يدها عن ذلك وتترك ذلك لآلية السوق. فهو لم يتعلم كثيراً، وبدأ صحفياً في المدن الصغرى حتي بلغ مجلس الشيوخ. وكان يُصوت في مجلس الشيوخ بما يرضي ضميره. ولذا وصفوه بأنه “سهم ثقافي رامح”. فهو لم “يتدنع” للوبيات وظل ينشر مصادر دخله سنوياً منذ الخمسينات. وكان شعار حملته غير الموفقة للترشيح للرئاسة عن الحزب الديمقراطي في 1988: “ألم يحن الوقت لنؤمن بالمستقبل من جديد”.
تنتاب دعوات إصلاح الأحزاب عندنا ضغينة ضد العجائز. فالدعاة يعتقدون أنه إذا أحلنا الميرغني والصادق والترابي ونقد وحاج مضوي “الذي قرنق ود اخته” وغيرهم الي الاستيداع فإن السياسة ستنصلح. فروائح السياسة في الشباب. وقال القائل إن من لم يصبح شيوعياً في صباه لا خير منه، ومن شاخت شيوعيته معه فقد بالغ عديل كدا. وفي هذه العقيدة حزازة شباب ضد عجائز لا إعراب لها في فقه التنوع الثقافي. ثم أني رأيت أرتالاً من الشباب تمر تحت جسر هذه الأحزاب ولم أشهد لإنتهازيتهم مثيلاً. فقد قتلتهم وطفت جثثهم.
إن العجائز في المجتمع والأحزاب هم “جيل الصدي”. أي أنهم الذين يتلاطم الماضي والحاضر عند خاطرهم فتشب المعرفة. فإنهم إذا استئنسوا كانوا موئل الحكمة. فقد تردد مرة ان سيمونز سيترك الحزب الديمقراطي. فنفي ذلك. وقال إنه لن يهجر مباديء الديمقراطيين “وإنني لسعيد أن هناك حزب جمهوري ولكن ألا يكفينا حزب جمهوري واحد”. وهذا كلام عجائز لست تجد مثله عند عجائزنا الذين بقوا في الأحزاب.
ولعل المنهج الأفضل لتطوير الأحزاب أن نأمل ان يبقى فيها الناس حتي يبلغوا أرذل العمر. وهذا مستحيل لأن أحزابنا طاردة للكثيرين. وكثير ممن بقى من الكبار فيها مصاب كما قلت مرة بمتوالية بيتر آيتموس المستمدة من إله إغريقي طفل متشبث بطفولته. ويضرب به المثل في الشيخ الذي توقفت حياته العاطفية عند الصبا. ولمست هذا عن عن تجربة بين قادة من الشيوعيين الذين صحبتهم. فاتفق لي أنهم توقفوا في نموهم العقلي والعاطفي في سن نهاية الثانوية. وصرخ مرة علي التوم، الوزير والد أكرم الوزير، من فرط الضيق بهم خلال المؤتمر الاقتصادي في ١٩٨٦: “الحزب الكبر بجهلو”. والخروج الكبير المشاهد من صفوفه راجع في أكثره إلى ضيق الخارجين، الذين طعنوا في العمر، بحزب في تمام صباه بجماله ونزقه.
مشكلة قادة احزابنا ليست في تقدم العمر بل في تأخرهم عن قطوف حكمة تقدم العمر. فصح فيهم قول المغنية:
العجوز القاعده بره
قاعده لي أنا لي المضره
يانكير أديها جرة