حتى لا ننتهي إلى نيفاشا أخرى
كتب: د. النور حمد
.
أولا لابد من الإشادة بلقاء رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بالسيد عبد العزيز الحلو، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال. فقد فتح اللقاء ما استغلق في مفاوضات جوبا حول تحقيق سلام شامل. لقد أتاح اللقاء فرصة ذهبية لاستكمال ملف السلام، حتى لا يبقى الباب في قضية السلام، نصفٌ مفتوح وآخرُ مغلق، إذ لا سلام أصلا أن لم يكن سلاما شاملا. وقد أثبتت تجربة الإنقاذ في تجزئة قضية السلام والانفراد بكل فصيل محارب على حده، بغرض تفتيت وحدة القوى الحاملة للسلاح، أنها تنتهي فقط بمناصب ومغانم للأطراف الموقعة. ويبقى أوار الحرب مشتعلا كما هو ويستمر القطر في الأنين والهزال.
كانت علة اتفاقية نيفاشا الجوهرية رغم جودة نصوصها أن الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق ارتضت التوافق مع الإنقاذ على إقصاء القوى السياسية الشمالية. فدخلت منفردة في شراكة مع المؤتمر الوطني لحكم البلاد لمدة خمسة سنوات. وهذا واحد من مزالق ما يسمى “الشرعية الثورية”. كان الأمل لدى الحركة الشعبية، أو قل لدى قرنق وبعض قادة حركته، على الأقل، أن تسهم سنوات الشراكة الخمس في جعل خيار الوحدة جاذبًا عندما يأتي أوان الاستفتاء. غير أن الإنقاذ وحزبها المؤتمر الوطني عملا بلا كلل لإفشال الفترة الانتقالية. مستندين في ذلك على وهمهم القاتل الذي غرقوا فيه وهو: أنهم هم الفائزون الحتميون في كل صراع. فأجندتهم، وفقا لظنهم بنفسهم، الطافح بالغرور، هي ما سيبقى في نهاية المطاف. وفجأة، لقي قرنق نحبه في حادثة غامضة، وأخذت الخطوط المتعلقة بالوحدة الجاذبة في التباعد بوتيرة متصاعدة. وانتهت الشراكة عبر الاستفتاء بانفصال الجنوب.
الآن يعود موضوع الدين والدولة ليسيطر على المشهد من جديد. لكن نرجو أن نخرج به الآن من دائرة الشعارية التعبوية والجدل إلهلامي الملغوم إلى أرض الموضوعية. فحين استقل السودان كان دولة ديموقراطية لها علاتها البنيوية، لكنها كانت خاليةً من هذا الجدل الملتهب. الإسلاميون والرئيس الراحل جعفر نميري هم من أدخلونا في هذا النفق المظلم. لم تأت ما سميت، زورًا وبهتانًا، بالقوانين الإسلامية نتيجة لاستفتاء. وإنما جرى فرضها على الجميع بمراسيم جمهورية فوقية. وحتى بعد أن جاء الإسلاميون إلى الحكم، لم ينشغلوا بتطبيقها وإنما انشغلوا بجعلها ذريعةً لاحتكار السلطة والثروة وإقصاء غيرهم. لم يطبق الإسلاميون عبر ثلاثين عامًا في الحكم حدًّا شرعيًا واحدًا، لعلمهم باستحالة تطبيقه في عالم اليوم. ولم ير الشعب مما سمي تطبيقًا للشريعة سوى الفقر والمرض والإذلال.
لقد لخص الأستاذ نبيل أديب تباكي الإسلاميين على وهم الدولة الدينية خير تلخيص حين قال: «اتفاق حمدوك الحلو هو خطوة هامة استئناف المفاوضات، وهو لا يغير ما أجمع عليه السودانيون من ضرورة تبني دستور يلزم الدولة بأن تقف على مسافة واحدة من كل الاديان، بغض النظر عن المسميات والمصطلحات، وهو ما تبناه الاسلاميون في دستوري 98 و2005. ولكن سبب احتجاجهم هو أنهم كانوا في الحكم، وكانوا يضمنون بالسلطة أن تظل نصوصا ميتة، ولكنهم الآن يخشون تطبيق تلك النصوص بعد أن فقدوا السلطة». خلاصة القول: أرجو ألا نكرر خطأ نيفاشا وننتهي ببلادنا إلى تفتيت جديد. علينا أن نؤكد وقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع العقائد الدينية، وألا ننجرف إلى الجدل الفلسفي واللغوي حول المصطلحات. فالأثر على مجريات الواقع الموضوعي هو المهم، وليس المصطلح.