حكومة الحي وحكومة القرية ٢ من ٢
كتب: د. النور حمد
.
التعريف الشائع للديموقراطية هو أنها: “حكم الشعب، بواسطة الشعب، لمصلحة الشعب”. ولما لم يكن حكم كل الشعب، لنفسه بنفسه، ممكنا من الناحية العملية، فقد جرى اختراع الديموقراطية التمثيلية، التي تنتخب فيها المجموعة فردا أو أفراد يمثلونها. وقد أوضحت في المقالة السابقة عيوب التمثيل، وأجملتها في تحول الممثلين إلى أدوات في يد أهل المصالح. إضافة إلى انصرافهم عن خدمة مصالح من اختاروهم، إلى خدمة أنفسهم، أو أحزابهم. أيضا يدخل في الحؤول بين الشعب وبين حكمه لنفسه بنفسه، الجهاز البيروقراطي المكتبي، الذي يتولى شؤون التخطيط والتنفيذ والإدارة. ولابد من القول هنا إن الحكومة من حيث هي، وبطبيعتها، جهاز قامع ومصادر، لصوت الشعب، بقدر من المقادير. ينطبق ذلك، بدرجات متفاوتة، حتى على أكثر الديموقراطيات رسوخا. أما الجهاز البيروقراطي، في ظل الأنظمة الديكتاتورية، فيصبح، بالضرورة، حاضنة ومفرخة للفساد. ولقد حولت سنوات حكم جعفر نميري الستة عشر، وسنوات حكم البشير الثلاثون الجهاز البيروقراطي إلى جهاز فاشل، وموبوء ببؤر الفساد. والوعي بهذه الحقائق، هو الذي يفتح الباب للإصلاح، ويضع نهج إشراك القواعد الشعبية في السلطة على رأس مصفوفة الأولويات.
ينبغي أن يكون هدف الديموقراطية المركزي أن يتعلم الناس كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم. وبما أن عامة الناس غير ملمين بالكثير من الأمور المتعلقة بالسياسة وبالإدارة، فقد تولت الدولة، نيابة عنهم، عبر ممثليهم في الحكومة وعبر الجهاز البيروقراطي، مهمة حكمهم. غير أن هذا الوضع، المتسم بالفوقية، ينبغي أن يكون وضعا إعداديا، مرحليا، أملاه قصور معارف عامة الناس وخبراتهم، وليس وضعا دائما. لكن بما أن التعليم قد انتشر، وشاعت الثقافة السياسية والإدارية، فقد تهيأ الظرف الآن لكي يشرك الناس على مستوى القواعد الشعبية في حكم أنفسهم بأنفسهم. وقد تجد، حاليا، في غالبية أحياء المدن، وفي أكثرية القرى، من يفهمون في السياسة وفي الإدارة بقدر يؤهلهم لكي يكونوا ممثلين للأحياء والقرى في مؤسسة الحكم المحلي، نيابة عن مواطني الأحياء والقرى. وليصبحوا صلة وصل بين الدولة وجهازها البيروقراطي، من جهة، والمواطنين، من الجهة الأخرى.
لكن، تعودت الحكومة وجهازها البيروقراطي على الوصاية على الشعب. لذلك، هناك مقاومة شديدة لعودة السلطة إلى أهلها. فمنذ نجاح الثورة قبل عامين، لم يتغير شيء في أحوال الأحياء والقرى التي تنطق أحوالها العامة بالإهمال الشديد وبالفوضى. فالأوساخ في كل مكان، والمدارس تحولت إلى خرائب، والتعدي على الشوارع من جانب السكان والأعمال التجارية في تزايد. والمواطنون يدلقون ماء النظافة على الشوارع فيخلقون بركا يتوالد فيها البعوض، كما يخربون بذلك الشوارع المسفلتة ولا أحد يراقب أو يحاسب. أيضا يترك المواطنون أنقاض البناء ومواده في الشارع لتبقى هناك شهورا بل وسنينا. كما أن تحويل الساحات العامة لصالح أفراد أو منظمات لا يزال دون مساءلة. والتصديق للورش وللمقاهي، وبعض الأماكن المشبوهة، ونشوء الأسواق العشوائية وسط الأحياء السكنية لم تجر له مراجعة تذكر. كما أن كثيرا من المخابز تعمل بطريقة غامضة. ولقد حاولت لجان المقاومة في عديد الأحياء، محاولات مستميتة، ليصبح لها صوت في إدارة شؤون حيها، غير أن محاولاتها ظلت ترتضم بصخرة صلدة.
خلاصة القول، لا مناص من إنشاء مجالس منتخبة للأحياء والقرى في صورة “حكومات مصغرة”، لتصبح الأداة التي تعين المحلية على إدارة شؤون الحي. إذ لابد من إحكام الرقابة الشعبية على أعمال المحليات بواسطة هذه الحكومات المصغرة التي لها صلاحية المشاركة في وضع الخطط والميزانيات وتحديد أوجه صرفها. وكذلك، التأكد من سلامة صرفها، إضافة إلى الاطلاع على مراجعات الحسابات فيما يخص أوجه الصرف. وكلما ابتعد تشكيل هذه الحكومات المصغرة عن الأغراض الحزبية الضيقة، وانحصر في اختيار القادرين على وضع الخطط والبرامج النهضوية، وعلى أحكام الرقابة على القرارات والميزانيات، كلما أمكننا مغادرة مربع العجز والفشل المزمن. فإذا لم تظهر لهذه الثورة ثمرة تتمثل في تغيير ظاهر على مستوى الجذور، فإن انتظار أن تأتي ثمارها من الديموقراطية التمثيلية ومؤسساتها في أعلى هرم السلطة، ومن الجهاز البيروقراطي الذي ينضح عداء لمصالح الجمهور، محض عبث. فإن آجلا لا يبدأ عاجله اليوم، ليس بمرجو.