حَائِطُ كِيْمْ جُوْنْقْ أُوْنْ الرَّطْب!
كتب: كمال الجزولي
.
الإثنين
اعتراضان قويَّان ارتفعا، لأوَّل مرَّة بمثل هذا الوضوح، ضدَّ «الوهم» المسمَّى «شراكة» المدنيِّين والعسكريِّين في سلطة الانتقال؛ أحدهما من داخل مجلس السَّيادة، متمثِّلاً في استقالة عائشة موسى (وقد شكا التَّجمُّع المدني من كون مجلس السَّيادة لم يرد عليها حتَّى تاريخ هذه الرُّزنامة)، تتَّهم العسكريِّين بتجاوز صلاحيَّتهم الدُّستوريَّة، وتحتجُّ على تأخُّر العدالة؛ والثَّاني من داخل المجلس المركزي للحريَّة والتَّغيير، حيث شدَّد منذر أبو المعالي على ضرورة إعادة صياغة هذه العلاقة المختلة، صائحاً بأعلى جهارة حنجرته «أن العسكر استولوا على مهام الحكومة المدنيَّة»!
ورغم أننا لم نكن لنتصوَّر، قط، أن هاتين الانتباهتين تحتاجان إلى «موت» من جاء لـ «يحيي» ذكرى عزيزة، حيث سقط شهيدان، وأصيب 37، في نفس محيط قيادة الجَّيش الذي سبق أن شهد، قبل عامين، سقوط ضحايا فضِّ الاعتصام الأوَّل عشيَّة عيد الفطر المبارك، إلا أن من شأن الانتباهتين، على أيَّة حال، أن تسهما في استعدال الاعوجاج. فبهذا الاتِّجاه انطلقت غضبة عائشة من أن «المدنيِّين يختمون على القرارات الجَّاهزة، والدَّولة تديرها قوى خفيَّة، واجتماعات المجلسين تضاءلت لصالح مجلس الشُّركاء، ولجان التَّحقيق في قتل الثُّوار ينبغي إلزامها بالإسراع في إنهاء عملها، وتأخير التَّحقيق في مجزرة الاعتصام ينبغي التَّقصي عن أسبابه، كما ينبغي إصلاح النِّظام العدلي، ليس فقط بتغيير الأشخاص، بل بإرساء القوانين التي تضمنه، وينبغي تكوين المحكمة الدُّستوريَّة، وإعادة هيكلة القوَّات النِّظاميَّة، وتقنين حمل السِّلاح، وتكوين المجلس التَّشريعي، وحلَّ مجلس الشُّركاء، ونقل رئاسة مجلس السَّيادة إلى المدنيِّين». ويشمل هذا الأمل، أيضاً، نِّداء أبو المعالي الذي تحدَّث لصحيفة «العرب» اللندنيَّة، في 15 مايو 2021م، متَّهماً الجَّيش بالفشل في حماية المواطنين بمحيط قيادته، ومصرِّحاً بأن الحدث فرصة لإعادة تقييم العلاقة، والعودة إلى نصِّ الوثيقة الدُّستوريَّة على أن دور مجلس السَّيادة «شرفيٌّ»، ما يعني وجوب رفع يده عن العمل «التنفيذي».
الثُّلاثاء
الكلمة التَّالية كُتبت قبل استقالة النَّائب العام، ولأهميَّتها، حتَّى في ما بعد استقالته، لا نرى مندوحة من نشرها، فليس ثمَّة ما هو أكثر «ارتباكاً» من «توضيحه» بشأن عمل لجنة أديب، حيث قال بلسان الحال، إن رئيس الوزراء أسند إليها هذه المهمَّة؛ ولا يجوز للنَّائب العام التَّدخُّل فيها؛ ومع ذلك منحها سلطات النِّيابة؛ واستعجلها استكمال الإجراءات، وتقديم التقَّرير النِّهائي، بغية توضيح الحقائق، وتقديم المتهمين للمحكمة؛ وأن ثمَّة تَّعقيدات إجرائيَّة تصاحب مثل هذه القضايا (أخبار السُّودان؛ 12 مايو 2021م).
لتفكيك هذا التَّصريح يلزمنا أن نأخذ في اعتبارنا مراوحته بين «الاتِّساق» و«الاضطراب»، على النَّحو الآتي:
أوَّلاً: يبدو «الاتِّساق» واضحاً بين «تكوين رئيس الوزراء للجنة» وبين «عدم تدخُّل النَّائب العام في إجراءاتها»، حيث أن:
(1) القانون الذي يمكن، بموجبه، «تكوين رئيس الوزراء للجنة»، هو «قانون لجان التَّحقيق لسنة 1954م».
(2) أيُّ «تكوين للجنة أخرى» ينبغي أن يتمَّ من «النَّائب العام»، بموجب «قانون الاجراءات الجَّنائيَّة لسنة 1991م» و«قانون النِّيابة العامَّة لسنة 2017م».
(3) الفرق بين اللجنتين أنه:
أ/ في حين «لا يتدخُّل النَّائب العام في عمل لجنة رئيس الوزراء»، فإن «من سلطاته تفويض صلاحياته للجنة يكوِّنها هو»؛
ب/ وفي حين تعتبر «أقصى صلاحيَّة» لدى «لجنة رئيس الوزراء» أن «ترفع إليه تقريرها النَّهائي»، فإن «لجنة النَّائب العام» تستطيع أن تبلغ بعملها «ساحة القضاء».
ثانياً: لكن «التَّناقض» واضح، أيضاً، بين «عدم تدخُّل النَّائب العام في إجراءات لجنة رئيس الوزراء»، وبين «منحه سلطاته لنفس اللجنة»، حيث أن:
(1) هذا «يخالف» كون النَّائب العام «لا يملك»، قانونيَّاً، «منح سلطاته إلا للجنة يكوِّنها هو»!
(2) و«يتناقض» مع «إقراره»، هو نفسه، بـ «عدم جواز تدخُّله في إجراءات لجنة رئيس الوزراء»! فإذا لم يكن «منح السُّلطات تدخُّلاً»، فكيف يكون «التَّدخُّل» إذن؟!
(3) كما يُعتبر «تدخُّلاً»، بلا شك، «استعجاله لجنة رئيس الوزراء استكمال إجراءاتها، وتقديم تقريرها النِّهائي»!
(4) هذا فضلاً عن تبرير ذلك بأنه «ابتغاء توضيح الحقائق وتقديم المتَّهمين للعدالة»! فلئن كان «توضيح الحقائق» مفهوماً، كغرض أساسي، أصلاً، لـ «تقرير لجنة رئيس الوزراء»، فمن ذا الذي «يبتغي» تقديم «المتَّهمين» إلى «العدالة»؟! أهي «اللجنة» التي «لم يكوِّنها النَّائب العام»، وبالتَّالي «ليس» من مهامها، حسب «قانون 1954م»، الوصول بأيِّ متَّهمين إلى ساحة «القضاء»؟! أم هو النَّائب العام الذي «لا يجوز» له التَّدخُّل في إجراءات هذه اللجنة، بما في ذلك «تقرير» وجود «متَّهمين» يؤخذون إلى «القضاء»؟!
ثالثاً: ومِمَّا يؤكِّد الفرق، عمليَّاً، بين «اللجنتين» أن «مجلس الوزراء» قرَّر، عقب مقتل الشَّهيدين وإصابة غيرهما في 29 رمضان، «استدعاء» لجنة أديب لـ «مساءلتها» عن سير «عملها»، و«مطالبتها» بتحديد سقف زمني لـ «إنهائه»، في حين أنه لم يستطع استدعاء النَّائب العام «المستقل»، وإنَّما «تقرَّر عقد اجتماع مشترك للمجلسين، بحضور النَّائب العام ورئيسة القضاء» (المصدر نفسه)!
أخيراً: نرجو ألا يكون النَّائب العام قد قصد بقوله، في خاتمة تصريحه، إن «ثمَّة تَّعقيدات إجرائيَّة تصاحب مثل هذه القضايا!»، أن هنالك ما يسمح، قانوناً، بـ «الخلط والتخليط»، بين الإجراءات التي تُتَّخذ تحت «قانون لجان التَّحقيق»، وتلك التي تُتَّخذ تحت «قانون الإجراءات الجَّنائيَّة»، و«قانون النِّيابة العامَّة»!
الأربعاء
جرياً على طريقته في شحذ الأذهان بما ينبغي ألا يُنسى، أعاد صديقي عبد الله علي ابراهيم التَّذكير، مؤخَّراً، بالقرار الأرعن الذي قدح الشَّرارة الأولى في حريق الدِّيموقراطيَّة، والذي اتَّخذته الجمعيَّة التَّأسيسيَّة، في جلستها رقم/20، بالإثنين 15 نوفمبر 1965م، والخاصِّ بحلِّ الحزب الشِّيوعي، وطرد نوَّابه منها، في عقابيل حادثة معهد المعلمين التى أريد لها أن تفجِّر فتنة لا تبقي ولا تذر، بحديثٍ مجترئٍ على الدِّين لطالب مجهول الهويَّة!
قدَّم الاقتراح، إلى دورة الجَّمعيَّة الأولى، ستَّة أعضاء، إثنان من حزب الأمَّة، وإثنان من مؤتمر البجا، وواحد من الاتِّحادي الدِّيموقراطي، وواحد من الإسلام السِّياسي، وأجيز بأغلبية151 مؤيِّداً، ومعارضة 12 شيوعيَّاً، وامتناع 9 عن التَّصويت، من بينهم اتِّحاديُّون، بينما انسحب من الجَّلسة الأب غبوش عن اتِّحاد جبال النُّوبا بعد إلقائه بياناً ملتبساً!
ويهمُّني أن أضيف، هنا، إلى ما أورد عبد الله، أن هذا الطالب المشبوه جرت نسبته إلى الحزب في هستيريا من الغوغائيَّة، والعجلة، واللهوجة، بل وعدم الرَّغبة، أصلاً، في التَّثبُّت، حتَّى إن نائب الجَّمعيَّة عن حزب الأمَّة، والنَّائب العام، وقتها، محمد ابراهيم خليل، لم يجد فى نفسه شيئاً من التَّقوى، أو حتَّى بعض إحساس بالحرج، من أن يعلن على رؤوس الأشهاد، في لحظة “صدق” نادرة فضحت المسكوت عـنه في مهـرجان التَّباكي على الدِّيـن الذي نُصـب في تلك الجَّلسـة، قائلاً: “ليس من المهم إن كان ذلك الطالب شيوعيَّاً أم غير شيوعي!” (ضمن: محمد سعيد القدَّال؛ معالم في تاريخ الحزب الشِّـيوعي السُّـوداني، ط 1، دار كـوش ـ دار الفارابي، بيـروت 1999م، ص 155).
كان المطلوب، إذن، حلُّ الحزب الشِّيوعي، من كلِّ بُد، وبأيِّ ثمن، وبصرف النَّظر عن علاقة الطالب الصَّفيق به، أو التأثير السَّالب لقرار الحلِّ على مسيرة الدِّيموقراطيَّة ومستقبلها في السُّودان، وهو ما كشفت عنه، لاحقاً، اعترافات دهاقنة الأخوان المسلمين، آنذاك، كعبد الرَّحيم حمدي، وسعاد الفاتح، وعلي عبد الله يعقوب، وغيرهم!
لقد أرادت القوى التَّقليديَّة إيهام النَّاس بأن كلَّ معضلات التَّطوُّر ما بعد ثورة أكتوبر، وكلَّ مصاعب إعادة بناء ما خرَّبته ديكتاتوريَّة عبُّود العسكريَّة، كان سببها، ببساطة، الحزب الشِّيوعي! وبحلِّه، وطرد نوَّابه من الجَّمعيَّة، ستستقيم الأمور كلها، وستتوطَّد الدِّيموقراطيَّة، وتكتسب المناعة اللازمة لنموِّها! وهكذا، ما أن فتح باب الخطب، حتَّى انبرى خطباء المؤسَّسة التَّقليديَّة، يهرفون بما لا يعرفون، ويكيلون للحزب تهماً إنشائيَّة لم يستشعر أى واحد منهم وازعاً من ضمير كى يكلف نفسه بالوقوف على شئ من حقيقتها، ولو بالحدِّ الأدنى مـن قيـم القسـط والعـدل، مِمَّا يحضُّ عليه الاسـلام نفسه الذى راحـوا يتحشَّـدون باسـمه، دَعْ أيَّ مسـتوى مـن المسـؤوليَّة تجـاه الشَّـعب والوطـن. التُّرابي، مثلاً، لم يفوِّت تلك الفرصة لينفث غلَّه المتأصِّل ضدَّ الماركسيَّة والفكر الاشتراكي، ولم يكن أقلَّ تحسُّباً أو حذراً من انزلاق لسانه، كمحمد ابراهيم خليل، إلى الاعتراف بالنيَّة المبيَّتة لحلِّ الحزب، وطرد نوَّابه من البرلمان، بصرف النَّظر عن حقيقة الطالب الغِر أو حديثه! لقد وجَّه زعيم الاسلام السِّياسي، آنذاك، خمس تهم للحزب، في حمس مجالات ما لبثت الأيَّام أن أثبتت، لاحقاً، رسوبه السَّاحق الماحق، هو نفسه، وحركته، فيها أجمعها، وهى: «الإيمان، الأخلاق، الدِّيموقراطيَّة، الوحدة الوطنيَّة، الاخلاص للوطن!» (نفسه). أمَّا نصر الدِّين السَّيِّد فلم يفته أن يدلى بدلوه فى مهرجان «التَّكفير» الذي نُصب، يومها، تحت قبَّة البرلمان «الدِّيموقراطي»، فراح يتَّهم الشِّيوعيِّين بأنهم «يلقِّنون أبناءنا أن الله لا وجود له وأن هذا الدِّين خرافة»! وعندما ألفى نفسه مضطراً لإثبات ما يقول، لم يتردَّد في إبلاغ «نوَّاب الشَّعب» الذين كانوا بصدد إصدار أحد أهمِّ وأخطر القرارات في تاريخ البرلمانيَّة السُّودانيَّة، بأن «هذا ما قاله لي أخ قادم من موسكو» (نفسه، ص 156) .. فتأمَّل!
لكن أقوى ما رسخ في العقل والوجدان ذلك الصَّوت المنفرد، المشبَّع بالمنعة المعنويَّة، والذي تصدَّى للدِّفاع عن الدِّيموقراطيَّة، صاعداً من وسط «زفَّة» التَّهريج التى شهدتها تلك الجلسة، مشحوناً بدلالات الحكمة الفكريَّة، والجرأة السِّياسيَّة، والشَّجاعة الأخلاقيَّة، وصدق المواجهة مع النفس، وأمانة النِّيابة عن الشَّعب. لقد أتيح لحسن بابكر الحاج، النَّائب عن الحزب الوطني الاتِّحادي، أن يلمح وراء تلك التَّعبيرات الملتبسة، المخاتلة، المنافقة، التواء الاسفاف السِّياسي، وبشاعة الاتجار بالدِّين، وقبح المنطق المقلوب على رأسه، فنهض ينبِّه الأذهان الغافلة، والأفئدة التَّائهة، والألباب المغيَّبة، ويسدى النُّصح لكلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد، قائلاً: «إن هناك طالباً سفيهاً يقال إنه أساء للرَّسول الكريم والدِّين الإسلامي، فقامت مظاهرات .. تطالب بحلِّ الحزب الشِّيوعي. فلنفترض أن أحد أعضاء الحزب الوطني الاتِّحادي تفوَّه بمثل ما تفوَّه به الطالب السَّفيه، فماذا يكون موقف الوطني الاتِّحادي؟! رجائي أن .. تحمـوا الدِّيموقراطـيَّة التي عادت إلينا بعد تضحيات .. وتأكدوا أنها ستنزع برمتها منكم كما انتزعت في الماضي .. ولا أريد أن أُسجَّل حرباً على الدِّيموقراطيَّة، فخير لأبنائي أن يدفنوني شهيداً من شهداء الدِّيموقراطيَّة بدلاً من أن أعيش في عهد تُوأد فيه الدِّيموقراطيَّة» (نفسه).
ولكن الدِّيموقراطيَّة وُئدت، وما من سميع ولا مجيب! وُئدت برغم غضب الجَّماهير خارج البرلمان، وبرغم جلجلة الحقِّ في حديث حسن بابكر، وبرغم النفي الحار من النوَّاب الشِّيوعيِّين للتُّهم المتطايرة في أرجاء القاعة، كتأكيد محمد ابراهيم نقد بأن حزبهم برئ من «الالحاد» الذي يحاولون إلصاقه به، وأن موقفه من الدِّين واضح في دستوره، وفي تاريخه الطويل، وتاريخ أعضائه، وأنهم لا يقولون ذلك عن خوف «فإننا لم نتعوَّد الخوف في الماضي، ولن نتعوَّده اليوم» (نفسه ، ص 157).
الخميس
في جلسة الدائرة التَّمهيديَّة الثَّانية بلاهاي، والتي انعقدت، من 25 إلى 28 مايو 2021م، لاعتماد التُّهم في قضيَّة كوشيب، نسب الادِّعاء إلى المتَّهم أنه كان، بين عامي 2003م ـ 2004م، الزَّعيم الأكبر، مرهوب الجَّناب، لمليشيا الجَّنجويد الموالية للحكومة بدارفور، والمسؤول المباشر، بهذه الصِّفة، وتحت إشراف احمد هارون، عن سلسلة غارات مميتة على إثنيَّة الفور في محليَّات منديسي، ووادي صالح، ومكجر وغيرها، حيث قاد مئات جرائم الحرب والجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة، الممنهجة، الشَّاملة للقتل، والتَّعذيب، والاغتصاب، وصنوف الجَّرائم الجِّنسيَّة، والاضطهاد السِّياسي والإثني والجَّندري، والنَّهب، وتدمير الممتلكات، والمعاملة القاسية، والنَّقل القسري، وامتهان الكرامة الإنسانيَّة.
لم تشهد الجلسة ما يمكن وصفه بالجَّديد، أو المثير، أو المفاجئ، في ما عدا إغلاقها، بعد انعقادها بفترة، بطلب من الدِّفاع، بالإضافة، ربَّما، لتلويح محامي الدفاع سيريل لوتشي الذي تناقلته وكالات، من خارج الجلسة، بأنه يعتزم الطعن في اختصاص المحكمة، فضلاً عن زعمه أن علي محمد علي عبد الرحمن ليس هو نفسه المتَّهم علي كوشيب! بهذا الزَّعم الغريب، البائس، غير الخليق حتَّى بمحام من الدَّرجة الثَّالثة، تجاهل لوتشي حقيقة كون المتَّهم لم يتم القبض عليه وفق معلومات استخباريَّة قابلة للتَّشكُّك في دقَّتها، وإنَّما أقدم على تسليم نفسه بنفسه، طواعية، في أفريقيا الوسطى، مُقرَّاً بهُويَّته، فنُقل من هناك إلى لاهاي، في 9 يونيو 2020م، حيث قام، خلال جلسة 15 يونيو 2020م، التي عقدت للتُّحقُّق من البيانات، بالإقرار باسمه ولقبه ووصفه!
على كلٍّ كان العبء ثقيلاً على كاهل بنسودا لإقناع المحكمة بأن لديها ما يكفي من الأدلَّة لإثبات إحدى وثلاثين تهمة وجَّهتها لكوشيب، للحيلولة دون شطب الدَّعوى، وانتقال الإجراءات إلى المرحلة التَّالية لبدء المحاكمة أمام الدَّائرة الابتدائيَّة!
الجُّمعة
«الأيديولوجيا»، أو «الأدلوجة» بمصطلح عبد الله العروي، هي «نسق» من النُّظم الفكريَّة والعاطفيَّة الشَّاملة التي تعمل على ضبط الأفعال، والتَّصرُّفات، والسُّلوكيَّات، والاختيارات، الجَّماعيَّة والفرديَّة، بهذا الاتِّجاه الطَّبقي أو ذاك، في كلِّ مجالات السِّياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والقانون، والتَّعليم، والأدب، والفن، والأخلاق، والرِّياضة، وغيرها. وبقدر تفاوت الاتِّجاهات الطبقيَّة، تتفاوت «الأنساق الأيديولوجيَّة» داخل المجتمع الواحد، أو بين شتَّى المجتمعات، بحسب تفاوت المصالح التي تبرِّرها وتخدمها. وعلى هذه «الأنساق» المختلفة تتأسَّس مختلف النَّظريَّات المؤثِّرة في مختلف العمليَّات العقليَّة والفكريَّة. ومن ثمَّ فكلُّ «نسق أيديولوجي»، حتَّى وإن لم يعرِّف نفسه بهذا المصطلح، إنما يستخدم أجهزة الإعلام، وآليَّات التَّربية والتَّعليم، ووسائط الاتِّصال الجَّماهيري، لأجل التَّرويج لتعاليمه، إمَّا بحصد الاقتناع الجَّماهيري التِّلقائي الواسع بمفاهيمه، وتوجيهاته، سعياً لإضفاء المشروعيَّة على نفسه، وعلى النِّظام الذي يسود فيه، سواءً على مستوى كلِّ بلد على حدة، أو في كتلة بلدان مختلفة، وإمَّا بفرض هذه التَّعاليم والتَّوجيهات، قسراً، عن طريق آليَّة السُّلطة. لكن من المهمِّ إدراك أن «الأنساق الأيديولوجيَّة» لم تعد جميعها، بالضَّرورة، تلك الدُّوغمائيَّة المغلقة، كما راج التَّعميم الخاطئ سابقاً! إذ بقدر ما تكون «الأيديولوجيا» أكثر انفتاحاً على متغيِّرات الواقع الموضوعي، محليَّاً، وإقليميَّاً، ودوليَّاً، بقدر ما تضحى أكثر صدقاً وسداداً، وبالتَّالي أكثر قرباً من عقول ووجدانات النَّاس، خصوصاً مَن يُفترض منهم، أصلاً، ألا حواجز طبقيَّة بينهم وبينها. ولئن كان هؤلاء هم الأغلبيَّة، عادة، فإن العكس، في ما يتَّصل بـ «الأيديولوجيا الزَّائفة»، أدعى لأن يكون صحيحاً تماماً.
والآن، عسى الله أن يكون في عون الشَّعب الكوري الشَّمالي، فالدِّيكتاتور كيم جونق أون يتسلط، هناك، حتَّى على «الأمزجة الشَّخصيَّة» التي يرى فيها تهديداً لسلطته، فلا تشغله سوى صياغة «بنيان أيديولوجي يحرِّم هذه الأمزجة»! وذلك نوع من «الأبنية التَّعسُّفيَّة» سبق أن فرضه القادة السُّوفييت، من قبل، كما فرضه قادة بلدان الدِّيموقراطيَّات الشَّعبيَّة، فأهدروا أنظمتهم، وتجاربهم الاشتراكيَّة، وراحوا هم أنفسهم .. في ستين!
ليس ثمَّة من يكابر في كون «الرَّأسماليَّة» ظلت، على الدَّوام، تستخدم «بنياناً أيديولوجيَّاً» تزيِّن به نمطها، بهدف جعل أفئدة الشَّباب، بالذَّات، تهوي إليها، من مختلف بلدان العالم. وتلك، بلا شكٍّ، معركة «أيديولوجيَّة» كانت، وما زالت، تدور على وعي الجَّماهير. لذا، فإن السُّلطات في المعسكر الاشتراكي سابقاً لم تستطع أن تحقِّق من النَّتائج، في هذه المعركة، أفضل مِمَّا انتهت إليه، لأنها ظلت تتخبَّط بين خيارات القمع المادِّي والمعنوي لشعوبها، تاركة أرواح شبابها، بالذَّات، تتلظَّى في جمر التَّعلق بالأسفار الطليقة، والبيرقر، والهوت دوق، والكوكا كولا، وموضات الجينز، وموسيقى البوب، وإيقاعات الجَّاز، حتَّى وقع الانفجار الذي هدم المعبد على رؤوس الجَّميع! وقد لا يصدِّق هذا إلا من شهده بأمِّ عينيه! مع ذلك، ها هو الديكتاتور كيم جونق أون، القادم من تلك العصور السَّحيقة، يخرج رأسه من تحت الأنقاض، ورماد الحريق، ليحظر على الشَّباب الكوري الشَّمالي ارتداء سراويل الجينز الضَّيِّقة، أو الممزَّقة، وبعض قصَّات الشَّعر، وصبغاته، وتسريحاته، وبعض أنماط الموسيقى، باعتبار ذلك من علامات «غزو النَّمط الرأسمالي»، وليصدر مرسوماً يقضي، بحسب موقع «ديلي ميرور»، بإجبار من يعبِّر عن مثل هذه «الأمزجة» على أداء أعمال شاقَّة بنظام السُّخرة، خوفاً على النِّظام من الانهيار «مثل حائط رطب»!
السَّبت
قرَّرت فرنسا إدراج رواية عبد العزيز بركة ساكن «مسيح دارفور» ضمن المقرَّر الدِّراسي لطلاب كليَّات التَّربية بجامعاتها، وعلى رأسها «السُّوربون» التي بلغ عمرها مائة عام، ومن الذين سيتولون تدريس هذه الرِّواية هناك مترجمها البروفيسور البلجيكي كزافيه لوفان.
ولعلَّ من المعلوم أن الأكاديميا الفرنسيَّة اكتسبت سمعتها العالميَّة الرَّفيعة بسبب عوامل معيَّنة على رأسها اللغة، والثَّقافة، وجودة نظام التَّعليم. فليست صدفة، إذن، أن صُنِّفت 19 جامعة فرنسيَّة ضمن أرقى 500 مركز للتَّعليم العالي عالميَّاً، كما وأن عدد العلماء الفرنسيِّين الحائزين على «نوبل» بلغ 62 عالماً، أشهرهم، كما هو معروف، ماري كوري، أول امرأة تحصل عليها في الفيزياء عام 1903م.
بركة ساكن غزير الانتاج، أصدر، حتى الآن، العديد من الأعمال التي تراوحت بين الرِّواية والقصَّة القصيرة، لكن مصيرها، أجمعها، كان الحظر، واحدها تلو الآخر، من جانب النِّظام البائد في السُّودان: كـ «الجَّنقو مسامير الأرض»، و«الطَّواحين»، و«العاشق البدوي»، و«رماد الماء»، و«الرَّجل الخراب»، و«مخيلة الخندريس»، وبطبيعة الحال «مسيح دارفور»؛ وقد تُرجم بعض هذه الأعمال إلى لغات أخرى، كالإنجليزيَّة والفرنسيَّة، وفاز بعضها بجوائز عالميَّة، ومنها «مسيح دارفور» القائل: «أَهوَنُ أن يلج جمل من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد في ملكوت الله»! أمَّا «الجَّنقو»، فقد اختيرت، في نسختها الفرنسيَّة، بترجمة كزافيه لوفان أيضاً، ضمن اثنتين وعشرين رواية، على القائمة القصيرة المرشَّحة لجائزة الرِّواية الأفريقيَّة للعام الحالي 2021م.
الأحد
وقف ممثِّل بريطانيا من أصول إيرلنديَّة يلقي كلمة في مؤتمر دولي. ولمَّا كان المترجم من الإنجليزيَّة إلى الدَّنماركيَّة متغيِّباً لمرضه، فقد اضطروا للاستعانة بمترجم يوناني ليترجم للوفد الدنماركي. وعلى عادة الآيرلنديين في استخدام التَّعابير الشَّاعريَّة استشهد الخطيب بالقول الإنجليزي الشَّائع «The spirit is willing, but the flesh is weak ـ الرُّوح راغبة، ولكن الجَّسد ضعيف»، فما كان من المترجم العبقري، بعد أن هرش رأسه مليَّاً، إلا أن ترجمها: «الويسكي لا بأس به، ولكن اللحم رديء»!