حَتَّامَ هَذَا العُنْفُ الأَخْرَق!

0 117

كتب:  د. كمال الجزولي

.

الإثنين
اعتمد الإجتماع المُشترك لمجلسي السَّيادة والوزراء برئاسة البرهان، بالأحد 18 أكتوبر 2020م، مواءمة إتفاقيَّة السَّلام التي تمَّ توقيعها في الثَّالث من أكتوبر الجَّاري بجوبا مع الوثيقة الدُّستوريَّة. أبرز النقاط التي أجيزت إضافة ثلاثة مقاعد لمجلس السَّيادة ليصبح مكوناً من 14 عضواً. كما قرَّر الاجتماع إضافة المادَّة/80 للوثيقة بإنشاء مجلس شركاء الفترة الانتقاليَّة من «الحريَّة والتَّغيير» و«المكوِّن العسكري» و«أطراف عمليَّة السَّلام» و«رئيس الوزراء»، لمناقشة القضايا السِّياسيَّة الكبرى لتذليل عمليَّة الانتقال (سونا وإعلام المجلس السيادي؛ 18 أكتوبر 2020م).
فور صدور القرار انفجر جدل دستوري كثيف حول ما إن كان تعديل الوثيقة في اجتماع مشترك للمجلسين أمرأً مشروعاً، أم الصَّحيح أنه كان ينبغي انتظار تشكيل المجلس التَّشريعي كي يصدر قرار التَّعديل منه.
رأيي، على خلفيَّة هذا الجَّدل، أن سلطة الانتقال ما كان لها أن تتورَّط في أمر كهذا، وتورِّط معها الوثيقة ذاتها في تعديل غير دستوري! فالأمر، في حقيقته، سياسي، وكان ينبغي علاجه خارج الأطر الدُّستوريَّة، بالاتِّفاق بين «الحريَّة والتَّغيير» و«أطراف عمليَّة السَّلام»، بإدماج الأخيرة في الأولى، وهذا، في الواقع، هو ما كان ينبغي أن يحدث، أصلاً، منذ البداية، إن لم تكن علاقات الأطراف قد بلغت كلَّ هذا المبلغ من التَّعقَّيد، ابتداءً من اليوم الشُّؤم الذي اعتقل فيه الرَّفيق ياسر عرمان، وأبعد، مخفوراً، إلى خارج البلاد، بدلاً من التَّرحيب بمبادرة عودته الميمونة من الخارج، بعد انتصار الثَّورة، لتكون تلك دعوة، في الواقع، إلى الآخرين، ليعودوا هم أيضاً، زرافات ووحداناً، إلى قلب الحاضنة الوطنيَّة!
الثُّلاثاء
خالد وافي، المقرِّر السَّابق لشُعبة مُصدِّري الماشية، طالب، مؤخَّراً، بإقالة وزير الثَّروة الحيوانيَّة والسَّمكيَّة المكلف، ومعه مدير إدارة المحاجر، وإحالتهما لنيابة الفساد .. والسَّبب؟! وقوفهما خلف تصدير إناث الإبل المُنتجة لدولة الإمارات، في مُخالفة صريحة لقرار رئيس مجلس السَّيادة (الصًّيحة؛ 18 أكتوبر 2020م)، وذلك بصرف النَّظر عمَّا إن كان إصدار مثل ذلك القرار من اختصاص الأخير أصلاً!
وكان وافي قد اتَّهم الرَّجلين، قبلاً، بالتَّواطؤ في الأمر، مشيراً إلى أن مدير المحاجر كذب حين صرَّح بأن الإناث المصدَّرة غير منتجة، مستنداً إلى فحوصات حَمْل ادَّعى أنها أجريت لها قبل التَّصدير؛ أمَّا الوزير المكلف فقد اتَّهمه وافي بإرهاب العاملين، وإرغامهم على ارتكاب هذا الفساد تحت أشـرافه المباشـر شخصيَّاً (باج نيوز؛ 17 أكتوبر 2020م).
المفجع حقَّاً، في حديث وافي، واللافت بشدَّة، هو عودة هذا الفساد من العهد البائد ليُمارَس في عهد الثَّورة! فعلى سبيل المثال، كما أشار كثير من الكتَّاب، أجاز ما كان يُسمَّى بـ «البرلمان»، على أيَّام ذلك النِّظام، تصدير هذه الإناث، في أواسط 2017م، على خلفيَّة حملة إعلاميَّة مرتَّبة، وواضحة الغرض، استعانت بمسؤولين، وللأسف بمن اعتُبروا أكاديميِّين، دعموا، أجمعهم، ذلك الفساد، بشتَّى الحُجج، فتارة لأن إناث الإبل السُّودانيَّة ليست متفرِّدة، وتارة أخرى لأن ثروتنا الحيوانيَّة غير مسجَّلة، وتارة ثالثة لأن كثيرين غيرنا يصدِّرون إناث حيواناتهم لا يبالون، وهلمَّجرَّا. لكن ما من شئ في كلِّ ذلك يبرِّر أن نصدِّر إناث إبلنا، بل على العكس تماماً، ثمَّة محاذير كثيرة يُفترض أن تحول دون ذلك، وقد صنَّف المختصُّون من بينها، على سبيل المثال، الدُور الأساسي لهذه الإناث في تكثير هذه الثروة في بلادنا، وإلى ذلك، أيضاً، ميزة سرعتها الفائقة التي تجعلها مرغوبة في السِّباقات، وما إلى ذلك من عوامل توجب، أجمعها، منطقيَّاً، عدم التَّفريط في هذه الثَّروة؛ فذاك فساد تنبغي محاربته، كون المصلحة العامَّة تنتفي عنه، البتَّة، ليذهب ريعه، حصريَّاً، إلى جيوب قلة من السَّماسرة، رسميِّين وغير رسميِّين؛ ضف إلى ذلك أن هذا الفساد مورس، على الأقل، في عهد النِّظام البائد، مِمَّا شكَّل بعض أسباب انقضاض الجَّماهير عليه، والإطاحة به، فيجب، من باب أولى، ألا يُمارس في عهد الثَّورة!
الأربعاء
أكثر من نصف قرن تصرَّم مذ أطلق عسكريُّون لا نعلمهم، الله يعلمهم، أعيرة ناريَّة اخترقت صدور شهداء وجرحى من الرِّجال والنِّساء، على أيَّام ثورة أكتوبر 1964م المجيدة، من بنادق دجَّجهم بها نظام الفريق عبود، آنذاك، والذي كان قد اختطف «الدَّولة الوطنيَّة!»، فعليَّاً، وقبض على رَسَنها، فلوَّثها، ورماها بدائه، وجعل من أجهزتها «العدليَّة» مطيَّة لأجهزته «القمعيَّة»، خصوصاً في ما يتَّصل بالتَّغطية على شخصيَّات العناصر المتورِّطة في ارتكاب تلك الجَّرائم من عسكريِّيه القتلة!
إنتصرت ثورة أكتوبر، رغم كلِّ شئ، وأطاحت الجَّماهير بالنِّظام الدِكتاتوري، لكن الأحزاب التَّقليديَّة التي أمسكت بالسُّلطة، بعده، قرَّرت العفو عن عبود وزمرته، على عكس المطلب الشَّعبي بمحاسبتهم جرَّاء انقلابهم العسكري في 17 نوفمبر 1958م! ولم يكن ذلك لوجه الله تعالى، إنما خوفاً من التَّحقيقات أن تطال سمعة بعض كوادر تلك الأحزاب ورموزها الوالغة في تسليم السُّلطة للعسكريِّين! أشرع ذلك العفو الأبواب، في ما بعد، على مصاريعها، أمام كلِّ صور الفساد الذي وسم الأنظمة الدِّكتاتوريَّة المتواترة، شاملاً ممارسة العنف الأخرق، الأمر الذي أضحى، منذ ذلك التَّاريخ، نهجاً ثابتاً، لا يتوقَّف، ولا يهدأ، بل، على العكس، يتفاقم، حيث ما تنفكُ أعداد الضَّحايا تتضاعف، ثورةً عن ثورة، وانتفاضة بعد انتفاضة، وهبَّة في إثر هبَّة. أمَّا الدَّولة «الوطنيَّة!»، التي تختبئ خلفها تلك الدِّكتاتوريَّات، فتكتفي، المرَّة تلو المرَّة، إزاء مشهد الشُّهداء والجَّرحى يتساقطون أمام وابل رصاصها، بالبيانات المخاتلة، والكلمات المنافقة، والتَّبريرات الماسخة، تماماً كما سعف النَّخيل الأعجف العجوز!
بالنَّتيجة، ومع كرِّ مسبحة السَّنوات، بلغ تشبُّع دم هذه الدَّولة «الوطنيَّة!» بسموم المناهج الدِّكتاتوريَّة أقصى مداه، فراحت مؤسَّساتها وأجهزتها تحتشد، أكثر فأكثر، ضمن من تحتشد بهم من المجرمين، بالعسكريِّين القتلة، وتتعبَّأ، حتَّى أسنانها، بطاقة العنف الأخرق، تلقائيَّاً، حتَّى دون حاجة لأن يمسك برَسَنها نظام دِكتاتوري! ولعلَّ هذا هو، بالتَّحديد، ما يفسِّر اعتياد أجهزة القمع، من شرطة وأمن وغيرهما، على التَّصدِّي للجَّماهير العزلاء بمثل هذا العنف الأخرق، سداح مداح، حتَّى لو خرجت في ظلِّ نظام ديموقراطي، كنظام الفترة الانتقاليَّة الحاليَّة، لتمارس، بكلِّ بساطة، حقَّها في التَّعبير السِّلمي عن رأيها أو مطالبها. وهذا ما حدث، فعليَّاً، نهار الأربعاء 21 أكتوبر 2020م، عندما خرجت هذه الجَّماهير، في الذِّكرى السَّادسة والخمسين لتلك الثَّورة، كي تعبِّر عن احتجاجها على الضَّوائق المعيشيَّة، وأوجه القصور التي ينبغي علاجها لأجل سداد الأداء خلال الفترة الانتقاليَّة، كغياب الجِّهاز التَّشريعي، وتطبيقات العدالة الانتقاليَّة، وما إلى ذلك، فإذا بها، وهي في قمَّة سلميَّتها، تُفاجأ بالمشهد يتحوَّل إلى وضع مقلوب على رأسه تماماً .. فيالق من أجهزة القمع تعترض المواكب بعنف مفرط خليق بأن يواجَه به أعداء الثَّورة، لا جماهيرها التي بذلت المهج والأرواح، تضحية وفداء لأجل الوطن، ومستقبل أجياله، والتي خرج من رحمها الشُّهداء، والجَّرحى، والمفقودين! وكان من نتائج ذلك استشهاد الشَّاب ذاكر عبد المجيد، من ثوَّار الجِّريف شرق، بطلق ناري، وإصابة ثوَّار آخرين بجروح متفاوتة، مِمَّا شجبته لجان المقاومة. ويجدر بالذِّكر أن الاستهداف بذلك العنف المفرط شمل، ضمن من شمل، الصَّحفيِّين والإعلاميِّين الذين جاءوا، أساساً، إلى مواقع المواكب في المدن الثَّلاثة، بغية التَّغطية الخبريَّة، فإذا بهم يتحوَّلون، هم أنفسهم، جرَّاء تعرُّضهم للاعتداء، إلى موضوعات لتلك التَّغطية، الأمر الذي لن يكفي لمعالجته محض ميثاق أبدت وزارة الثَّقافة والإعلام نيَّتها لإبرامه بين الصَّحفيِّين والإعلاميِّين، وبين الأجهزة الشُّرطيَّة والأمنيَّة، فلا بُدَّ من إخضاعه لتحقيق جاد، ضمن التَّحقيقات التي ينبغي أن تشمل ذلك العنف الأخرق، وتطال المتورِّطين فيه.
الخميس
رغم مرور زهاء السِّتين عاماً على ذلك الحادث الذي رجَّ أم درمان رجَّاً، مطالع ستِّينات القرن المنصرم، فإن مقتل الشَّيخ العالم اللغوي الجَّهبذ، نادر المثال، الطَّيِّب السَّرَّاج، والد الأديب فرَّاج والإعلامي حديد، ما يزال لغزاً يحيِّر الألباب، وسؤالاً كثيف الغموض في أضابير الشُّرطة التي تفاجأت بجثَّته مضرَّجة بالدَّم، في عقر داره بحي أبي روف الهادئ، بل مقطَّعة إرباً إربا!
من القلائل الذين عرضوا لسيرة الشَّيخ ومسيرته، خضر حمد، أحد أبرز مثقَّفي الحقبة الاستعماريَّة، وما بعدها. وكان خضر أحد طلائع مؤتمر الخرِّيجين، وعضواً بجماعة الأبروفيِّين، حيث ناضل من خلالهما «بجدٍّ لا يعرف الكلل، وعزيمة لا تعرف الخور، وبسالةٍ لا تعرف الحذر»، على حد تعبير الهادي أبو بكر اسحق في تقديمه لمذكِّراته الصَّادرة عن مركز عبد الكريم ميرغني عام 2013م، كما اختاره عبد الرحمن عزَّام ليكون أحد معاونيه في رئاسة بعض الأقسام الإداريَّة بالجَّامعة العربيَّة. وبعد استقلال السُّودان أختير خضر وزيراً للرَّي، ثمَّ أصبح، عقب ثورة أكتوبر 1964م التي أطاحت بالفريق عبُّود، واستعادت النِّظام الدِّيموقراطي، عضواً بمجلس السَّيادة عن الحزب الوطني الاتِّحادي.
وفي مذكِّراته المشار إليها أورد خضر حمد أن مجالس الشَّيخ كانت، بحق، مجالس علم، فإذا تحدَّث تدفَّق وتحدَّر كالسَّيل. وأكَّد أنه وجيله قد انتفعوا من غزارة علمه على صعيد اللغة، والتَّاريخ، والسِّيرة. وقال: ذهبت إلى مصر، ثمَّ جاء الشَّيخ إليها، فحاولنا أن نقدِّمه إلى المجمع اللغوي، وندخله فيه ممثِّلاً للسُّودان، فدفعت إلى المجمع بمذكِّرة ضافية كتبتها باسم النَّادي السُّوداني. ثمَّ قابلنا، أنا وتوفيق احمد البكري، الأستاذ أحمد أمين، المدير الثَّقافي، وقتها، للجَّامعة العربيَّة، وتحدَّثنا إليه في شأن الشَّيخ، فأدهشنا ثناؤه عليه بأنه رجل نادر، وقوله: «لو لم أره لما كنت أصدِّق ما عرفته عنه. إنه من النَّوع الذي يحمل علمه بين حنايا ضلوعه، لا يرجع إلى مرجع، ولا يستشير موسوعة»! وأخذ الأستاذ أحمد يطنب في مدح الشَّيخ، وعلمه، غير أنه أظهر أسفه لأنه، رغم ذلك كله، لا مجال لقبوله بالمجمع اللغوي، كونه لم تكن لديه مؤلفات تُعتبر الشَّرط الأساسي لنيل العضويَّة! ويواصل خضر حمد قائلاً: بعدها التمسنا رابطة الشُّعراء والأدباء، حيث هيَّأ لنا كامل كيلاني اجتماعاً مع رئيسها دسوقي أباظة وتلامذته، لكن الشَّيخ ما لبث أن صُدم، من أوَّل لحظة، جرَّاء سؤالهم له عمَّا إذا كان كويتيَّاً أو بحرينيَّاً، فانصرف! وكان، كلما حاول كيلاني أن ينبٍّهه إلى مكانة أولئك العلماء، يعلق قائلاً: أين العلماء؟! هؤلاء مجرَّد «قَشْ»! وكم حاولنا أن نثنيه عن ذلك النَّقد المرير الذي يبدأهم به، ويقلل من قيمتهم، فكان، عليه رحمة الله ورضوانه، يقول: هكذا خلقت جلفاً، ولا أستطيع أن أغيِّر إهابي!
الجُّمعة
إختتمت فاتو بنسودا، المُدعية العامَّة للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، زيارة الأيَّام الثَّلاثة للخرطوم التي كانت وصلتها مساء السبت17 أكتوبر 2020م. ولئن كانت هذه أول زيارة لها للسُّودان، كمدَّعية دوليَّة عامَّة، فقد سبقتها زيارة وفد من مكتب الإدِّعاء العام، على أيَّام ولاية أوكامبو، عقب إحالة ملف دارفور إلى المحكمة من مجلس الأمن الدَّولي، بموجب القرار/1593، الصَّادر في 31 مارس 2005م، حيث أجرى ذلك الوفد الباكر تحقيقات أوَّليَّة حول انتهاكات الإقليم شملت العاصمة، وبعض الرَّسميِّين كوزير الدِّفاع، وقتها، كما شملت دارفور بما فيها معسكرات النَّازحين، وكذلك معسكرات اللاجئين بشرق تشاد. فلئن كانت تلك الزِّيارة الأولى قد قام بها وفد من مكتب الإدِّعاء الدَّولي العام لأغراض التَّحقيق، فإن الزِّيارة الحاليَّة تمَّت برئاسة المدَّعية العامَّة شخصيَّاً، وشملت طيفاً واسعاً من الأهداف، بينها بحث مسألة السَّماح الفوري لمحقِّقين من مكتبها بدخول السُّودان لاستكمال التَّحقيقات، كما شملت مناقشة إمكانيَّة أن يكون للمحكمة وفد دائم في البلاد، وكذلك التَّفاكر حول وضع مذكرة تفاهم بشأن آليَّات التَّعاون بين المحكمة والحكومة، وحول تنسيق الزِّيارات الفنيَّة بين الطَّرفين، وإلى ذلك بحث الخيارات المتاحة في ما يتَّصل بمحاكمة المتَّهمين المذكورين.
في الإطار التقت بنسودا برئيس ونائب رئيس مجلس السَّيادة، ورئيس مجلس الوزراء، ووزير العدل، والنَّائب العام، كما عقدت، لدى نهاية الزيارة، مؤتمراً صحفيَّاً. الجدير بالذِّكر أنه سبق لها أن التقت برئيس الوزراء، خلال زيارته لباريس، العام الماضي، كما أعلنت، في التَّاسع من يونيو الماضي، عن اتصالها به، عقب تسلُّم المحكمة للمطلوب علي كوشيب. ووصفت، في خطابها الدَّوري أمام مجلس الأمن، حديثها مع حمدوك بأنه كان مشجعاً ومفيداً، وأنها متفائلة بأن فصلًا جديدًا من الانخراط البنَّاء للمحكمة في السُّودان سيحدث. ولعلَّ مِمَّا يدعم هذا التَّفاؤل تواثق أطراف اتِّفاق جوبا للسَّلام على الالتزام بقرار مجلس الأمن بإحالة ملف دارفور إلى المحكمة، وتعهدهم بكفالة حريَّة تنقُّل كوادرها في كلِّ أنحاء السُّودان، وتيسير وصول محقِّقيها إلى الضَّحايا والشُّهود ومواقع التَّحقيق، والامتناع عن التَّدخُّل في عملهم، مع ضمان حمايتهم وحماية الضَّحايا والشُّهود، كما كان رئيس مجلس السَّيادة قد تعهَّد، في فبراير 2020م، بالتَّعاون الكامل مع المحكمة في شأن المتَّهم البشير، وفق ما أعلنه، آنذاك، كينيث روث، مدير منظمة هيومن رايتس ووتش، بعد لقائه بالبرهان.
أمَّا بالنِّسبة لمسألة الخيارات المتاحة في ما يتَّصل بالمحاكمات، فعلى الرُّغم من أنها سابقة لأوانها، كون الأولويَّة الفوريَّة، الآن، لتسليم المطلوبين إلى المحكمة، قبل أيِّ حديث عن محاكمات، إلا أنه لا مناص من أن نعرض لها، طالما أنها تمثِّل بعض أهداف الزِّيارة. وإذن، فخيار المحاكمة قائم على المفاضلة بين أحد ثلاثة احتمالات، بمعرفة وموافقة المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة:
الاحتمال الأوَّل هو أن تتمَّ المحاكمة أمام محكمة خاصَّة ضمن ولاية القضاء السُّوداني. لكنَّ في ذلك استحالة لسبب رئيس، وهو أن الجَّرائم الدَّوليَّة تحاكم بموجب القانون الجَّنائي الدَّولي، والجَّرائم موضوع المحاكمة المطلوبة ارتكبت، أساساً، خلال عامي 2003م ـ 2004م، أي عندما لم تكن عناصر القانون الجَّنائي الدَّولي مضمَّنة في القانون الجَّنائي السُّوداني، حيث لم يقع ذلك التَّضمين إلا بتعديل خاص جرى عام 2009م، بإضافة الباب الثَّامن عشر إلى القانون الجَّنائي السُّوداني لسنة 1991م. ومعلوم أن المحاكمة على جريمة بموجب قانون لاحق على ارتكابها تتصادم والقاعدة الرَّاسخة بعدم رجعيَّة القوانين.
أمَّا الاحتمال الثَّاني فهو أن تتمَّ المحاكمة أمام المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة؛ في مقرِّها بلاهاي، أو في أيِّ مقر بديل بالسُّودان، علماً بأنه ليس في «نظام روما لسنة 1998م» ما يحول دون ذلك، بشرط عملي هو أن تتولى حكومة السُّودان، بطبيعة الحال، توفير الحماية والأمن اللازمين لهذه المحاكمة.
وأمَّا الاحتمال الثَّالث فهو أن تتولى المحاكمة، بمعرفة وموافقة المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، محكمة هجينhybrid، من جهتي القضاء والإدِّعاء، تنعقد في السُّودان، وتطبِّق القانون الجَّنائي الدَّولي، وتوفِّر لها حكومة السُّودان، بالمثل، الحماية والأمن اللازمين.
إذن، بعد استبعاد الاحتمال الأوَّل للسَّبب المذكور، يتبقى الاحتمالان الآخران. وفي مستوى التَّقدير الشَّخصي، أجدني أفضِّل الاحتمال الثَّاني، من الناحية النَّظريَّة البحتة، بوصفي عضواً في التَّحالف الدَّولي الدَّاعم للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة CICC، وقد أصدرت كتابين في فضائل هذه المؤسَّسة، إلى جانب العشرات من الأوراق العلميَّة، والبحوث، والمقالات، والمحاضرات المنشورة في الكثير من الصُّحف، والمجلَّات، والدَّوريَّات، والمقدَّمة في العديد من المؤتمرات، والنَّدوات، وورش العمل، داخل وخارج السُّودان، بما في ذلك المحكمة نفسها، والتي أعتبرها، من الزَّاوية القانونيَّة الدَّوليَّة التَّقدُّميَّة، نتاج نضالات الملايين من المدنيِّين حول العالم، الذين اكتووا بنيران الحروب الدَّوليَّة، والنِّزاعات الدَّاخليَّة المسلحة، ومطالباتهم التي لم تفتر بقضاء دولي دائم لمحاكمة منتهكي حقوق الإنسان، والقانون الجَّنائي الدَّولي، ومرتكبي الجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة، وجرائم الحرب، والإبادة الجَّماعيَّة، والعدوان.
مع ذلك فإنني أميل، في ما يتعلق بقضيَّة دارفور بالذَّات، إلى ترجيح الخيار الثالث «المحكمة الهجين». فالقاعدة القانونيَّة الذَّهبيَّة هي «أن العدالة التي تطبق ينبغي أن تُرى وهي تطبق not only must Justice be done; it must also be seen to be done». إنها ليست قاعدة شكليَّة يمكن تجاوزها، كما ولا يمكن، في ذات الوقت، ضمان تطبيقها حَالَ انعقاد المحاكمة خارج البلاد، إذ سيصعب، حتماً، على الآلاف من الضَّحايا وذويهم حضور جلساتها، أو حتَّى متابعتها عبر الإعلام أو الوسائط الإليكترونيَّة، دَعْ الملايين من المواطنين. ومع أن الجَّنائيَّة الدَّوليَّة يمكنها الانعقاد، كما أشرنا، داخل السُّودان، فإن توفير الحماية لها من جانب الحكومة قد يبدو، في الوقت الرَّاهن، غير ميسور، بالنَّظر إلى ما تعانيه شتَّى أنحاء البلاد، بما فيها الخرطوم نفسها، من اضطرابات أمنيَّة. أمَّا توفير هذه الحماية لـ «المحكمة الهجين» فأخفُّ وطأة، وقد يتيسَّر إلى حدٍّ كبير.
السَّبت
قد نكون عبرنا صعوبات الجِّبال بتوفيرنا بعض ما قد تكتفي واشنطن بمطالبتنا به من مال لترفع اسمنا من قائمة الدُّول الرَّاعية للإرهاب، لكن، حتَّى لو لم تواجهنا بمطالب إضافيَّة، فما تزال بيننا وبين هذا القرار من صعوبات السُّهول «بيدٌ دونها بيدُ»! إذ يبدو لي، إلا إذا حدثت معجزة، أننا مضطرُّون لأن ننتظر إخطار الخارجيَّة للبيت الأبيض بإيفائنا بالمال، ثمَّ ننتظر إخطار البيت الأبيض لغرفة النُّوَّاب في الكونغرس باعتزامه رفع اسمنا من القائمة، ثم ننتظر صدور موافقة غرفة النُّوَّاب على ذلك، ثمَّ ننتظر انتقال الأمر برمَّته إلى غرفة الشِّيوخ، ثمَّ ننتظر تعطُّف الشِّيوخ، الدِّيموقراطيِّن خاصَّة، بالموافقة، قبل أن يصدر البيت الأبيض توجيهه النِّهائي إلى الخارجيَّة بالتَّنفيذ، دون عوائق جديدة، كمنح ضحايا 11 سبتمبر، مثلاً، حقَّ مقاضاتنا بموجب قوانين الارهاب! و .. أتمنَّى ألا نكون قد تعجَّلنا في إطلاق زغاريد العُرس!
الأحد
كان أحـد المـلـوك القـدماء سميناً، كثـير الشـَّحم، وقد أعجز علاجه جـميع الحـكمـاء، فانبرى رجل من العامَّة قائلاً له: أنا أعالجك! فوعده، إن عالجه، يجعله ثريَّاً! قال الرَّجل: أصـلح الله مولاي، أنا طبـيـب منـجِّم، أمهلني أقرأ طالعك الليـلة لأرى أي دواء يوافـقه. أجابه الملك إلى طلبه، فلمـا أصـبـح طلب الأمــان! فأمنه، فقال: رأيت طالعـك يـدلُّ على أنه لم يـبق من عمـرك غـير شـهر، فإن إخـترت عالجـتك، وإن أردت التَّأكُّد من صدق كلامي فاحبـسـنـي، فإن كان قولي حقـيـقةً، فـاخلِ سبيلي، واوفِ بوعدك، وإلا عاقبني كيف شئت! فأمر به فحُبـس. لكن الملك خـلا إلى نفسه مغـتمـَّاً، وكان، كلما انسلخ يوم، ازداد همـَّاً وغمـَّاً، حتَّى هزل، وخفَّ شحمه، فجيئ باللبيب من محبسه، فقـال: أعـزَّ الله المـلـك، والله لم يكن عنـدي دواء لك غير الهمَّ والغـمَّ، فسامحني يا مولاي!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.