خدمة أخرى أدمنت الفشل: مكميك كسار قلم جوفرى آرشر (١٩٢٦) (٣-٣)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(لا تخفي صفوة التعليم الغربي حسرتها على جلاء الاستعمار الإنجليزي. وهذه هي النوستالجيا. وهي حالة يتشوق المرء فيها لماض لم يقع تماماً كما تصوره المصاب بها. وهي حيلة عجز يضرب المرء فيها عن تغيير ما به لأنه خَبِر في الماضي شيئاً أفضل من حاله الحالي وكفى. فما وقف الواحد من صفوتنا على تضعضع خدمتنا المدنية حتى ذكر للإنجليز فضل تركهم فينا “خدمة مدنية” تزبط عليها ساعتك. ولي مطعنان على هذه النوستالجيا. أولهما أن الإنجليز أنفسهم لم يسموا ما تركوه فينا خدمة مدنية بل “خدمة السودان ” Sudan service. وثانيهما أن خدمة السودان هذه شهدت صراعات مما نشكو منه اليوم ك”فشل الصفوة وإدمانها”. وسقت لكم في حلقات مضت كيد سكرتارية جوفري آرشر، الحاكم العام (١٩٢٥-١٩٢٦)، له بقيادة هارولد ماكمايكل (مكميك) السكرتير الإداري. وكان الخلاف حول هل تنفتح إدارتهم على السيد عبد الرحمن المهدي، وهي خطة آرشر، أم تلجمه وهي خطة السكرتارية. وكان محور المواجهة زيارة قام بها آرشر في جزيرة أبا استنكرها السكرتارية. وعملوا للحاكم كيد الأفندية الذي لا يغبانا حد ذكرهم له حكايتو التي في إيتون (مدرسة في انجلترا). فإلى بقية الحكاية:
لم تأت الرياح بما اشتهى آرشر. فبدأت كفة خصومه ترجح بتدخل السير لويد، المندوب السامي لبريطانيا في مصر، بعد رسالة السكرتارية له. فطلب لويد من آرشر أن يقطع رحلته إلى أبا ويعود للخرطوم للاجتماع بسكرتاريته. وعاد آرشر إلى الخرطوم ولم يجتمع كِبراً بها وطلب عوضاً عن ذلك أن يأذن له لويد بالقدوم للقاهرة طامعاً في كسبه لصفه. ووافق لويد. وتمت الزيارة في 3 إبريل ١٩٢٦.
ولا تأتي المصائب فرادى لآرشر. فزاد المهدي طين آرشر بِلة بزيارة قام بها إلى جهة النيل الأزرق بزعم الوقوف على زراعته هناك. وكانت الزيارة في الواضح ترويجاً لزعامته بعد حظوته بزيارة الحاكم العام. وكتب هدلستون، مدير النيل الأزرق وحليف مكاكمايكل، تقريراً مبالغاً في سلبيته عن الزيارة. فذكر في باب نقده دعوة المهدي للشيخ هجو، من سادة يعقوباب سنار، ليلقاه في سنار بعبارات فيها نعرة زعامة مثل قوله في الدعوة “المهدي عليه السلام”. وزاد هدلستون بقوله إن الزيارة كانت طلباً حثيثاً للزعامة حتى سأله الشيخ هجو إن كان المهدي سيكون حكومة داخل الحكومة. وهكذا بلغت رسالة المهدي للأعيان من أنه واصل والحكومة حليفه للأعيان. ولكن كان رأي آرشر أن زيارته لأبا لا غبار عليها. ولكنه غاضب من المهدي لجولته في النيل الأزرق التي قام بها بخفة لا تصدق منه فأعطى خصومه فرصة للنيل منه. ومع ذلك لم ير آرشر في الجولة تمرداً على الحكومة بل فرحاً بتواتر كسبه من الزيارة.
تعزز ماكمايكل بتقرير هدلستون فطلب من آرشر عقد اجتماع لمجلس الحاكم العام لمناقشة مسألة المهدي. ولم يقبل المجلس الذي اجتمع في ٢٦ مارس من آرشر دفوعاته عن نفسه أو المهدي. وأوصى بتقييد حركة المهدي فيمتنع مستقبلاً من زيارة النيل الأزرق، أو مغادرة الخرطوم بغير أذن الحاكم العام. وطلبوا من آرشر أن يلتقي بالسيد لدقائق معدودة ليطلعه على ما اتفق للسكرتارية. والتقى آرشر بالمهدي كما طلبوا منه وأطلعه على قرارات المجلس بصحبة ماكمايكل وهدلستون. وعرّب هدلستون تحذير الحاكم للمهدي الذي انزعج المهدي وحاول شرح واقعة جولته. ولكن آرشر حسمه كتوجيه السكرتارية. فطلب منه ألا يطيل لأنه سينصرف إلى شغل آخر. فانزعج المهدي من لهجة آرشر فأرسل يعتذر له قائلا إنه لم يوجه الدعوة لأي أحد لملاقاته خلال جولته. وجاءه هجو بغير دعوة منه. وعبر عن أسفه إن ينسب إليه ما لا يسعد آرشر الذي كرمه بزيارته له في داره.
واصل خصوم آرشر التربص به لخلعه من وظيفته كحاكم عام. فاجتمعوا في ٢٨ مارس ووقفوا بالأجماع مع آراء واسي، السكرتير المالي، التي في خطابه إلى لويد. وفطن لويد إلى أن قرارات السكرتارية في لجم المهدي إنما هي في حقيقة الأمر بحق آرشر الذي لم يعد يتمتع بثقة مرؤوسيه. ونقل سوء الظن بآرشر للويد موفدان من الخرطوم للقاهرة منهما واسي سافرا برغم اعتراض آرشر على ذلك.
وبدا أن الهزائم أطبقت على آرشر من طواف المهدي إلى حصار المجلس له فتقدم باستقالته وهو في سفرته النيلية إلى مصر. ولم يجد لويد سبباً ألا يقبلها في ٢٣ إبريل. وجاء جون مافي خلفاً لآرشر. ورحبت الختمية به. واستمرت الإدارة الاستعمارية في اعتزال المهدي حتى اتضح لهم خطأها في ١٩٣٤ فصالحوه. وعاش آرشر ليرى عودة أهله لسياسته الليبرالية تجاه المهدي. وبعث في ١٩٥٧ برسالة للمهدي يقول فيها إن علو منزلته الحالية دليل على صحة رأيه في الخلاف مع مجلس الحاكم العام. وبعث له بصورة له وهو في أبا.