خطبة الجمعة
الْحَمْدُ للهِ ربِّ العالَمين، أحمدُه سُبْحانَه وتعالى بما هو لهُ أهلٌ منَ الحَمْدِ وأُثني عليه، وأؤمنُ به وأتوكَّلُ عليه، مَنْ يهدِهِ اللهُ فَلا مُضلَّ له، ومَنْ يُضللْ فلا هاديَ له، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وباركْ عليه وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فيا أيُّها المُسلمونَ:
إنَ منْ دلائلِ الإيمانِ وبراهينِه حُبَّ الخَيْرِ للنَّاسِ كَما يُحِبُّ الإِنسانُ ذَلِكَ لِنَفْسِه، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : (لاَ يُؤمِنُ أَحدُكُم حتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِه)، ويقولُ -صلى الله عليه وسلم- : (أَحِبَّ للنَّاسِ ما تُحبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسلماً)، والذي يُحِبُّ الخَيْرَ لأَخِيه كَما يُحِبُّهُ لِنَفْسِه يَنجُو بِنَفِسِه منَ النَّارِ، ومَنْ زُحزِحَ عَنِ النَّارِ فَازَ ودَخَلَ الجَنَّةَ مَعَ الأَبرار، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزحزَحَ عَنِ النَّارِ ويَدخلَ الجَنَّةَ فلْتُدركْهُ منِيَّتُهُ وهُو مُؤْمِنٌ بِاللهِ واليومِ الآخرِ ويأتي إلى الناسِ الَّذي يُحِبُّ أَنْ يُؤتَى إِلَيه). إِنَّ الَّذِي يُحِبُّ للنَّاسِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِه امرؤٌ سَلِمَ صَدرُه منَ الغِلِّ والحَسَد، ومِنْ ثَمَّ فَهُوَ لا يكْرَهُ أنْ يُساقَ الخَيْرُ إِلَى أَحَدٍ؛ بلْ إِنَّهُ يَسمُو ويَرتَقِي أكثرَ فَيشعرَ بالسعادةِ إذَا سيقَ إلى أحدٍ وكأنَّ هذا الخيرَ سيقَ إليه، ووُضِعَ بينَ يدَيه، ولقدْ كانَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- يشكرُ رَبَّهُ على كلِّ نِعمةٍ تَصِلُ إلى أَحَدٍ مِنْ خلقِه؛ فَكَانَ يُردِّدُ كُلَّ صباحٍ وبكلِّ سَعادةٍ وانشراحٍ: (اللهمَّ ما أصبحَ بِي مِنْ نِعمَةٍ أَو بأحدٍ مِنْ خَلْقِكَ فمِنْكَ وَحدَكَ لا شريكَ لكَ فلكَ الحَمْدُ ولكَ الشُّكْرُ).
عباد الله :
إنَّ علاقةَ الناس بعضِهم ببعض يجبُ أنْ تقومَ على عواطفِ الحُبِّ المشتركِ والتعاونِ على البرِّ والتقوى والمجاملةِ الطيِّبة، والمعاملاتِ السمحة، ولنْ تكونَ العلاقاتُ بهذهِ الصورةِ إلاَّ إذا نقَّى كلُّ إنسانٍ صدرَه منَ الأنانيةِ واستعانَ على تحقيقِ ذلكَ بالدُّعاءِ والتضرُّعِ إلى اللهِ تعالى ليعينَه على ذلك، يقولُ اللهُ تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ).
إنَّ الإنسانَ مرآةُ لأخيه الإنسان، يحبُّه دائماً مُتَّصفاً بالفضائلِ والإحسان، إنْ رأى فيهِ خَيراً أبقاه ونمَّاه، وإنْ رآه على شرٍّ طهَّرَه منْ ذلكَ الشَّرِّ ونقَّاه، وهذا منَ اليسيرِ تحقيقُه وتأكيدُه وتوثيقُه في ظلالِ الإيمانِ؛ فأنوارُ الإيمانِ كفيلةٌ بإزالةِ الحقدِ والكراهيةِ وحبِّ النَّفسِ والأنانية، وإذا ما زالَ ذلكَ وانمحَى أَحبَّ الإنسانُ الخيرَ لعبادِ اللهِ جميعاً، فعلى هُدىً مِنْ نورِ الإيمانِ لا يُبغِضُ ولا يُقاطعُ، ولا يَحسدُ ولا يُدابرُ، يُعلّمُه إيمانُه بأنَّ كُلَّ الناسِ إخوانُه، يقولُ الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَقَاطعوا ولا تَدابَروا، ولا تَباغَضُوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا)، كما أنَّ أنوارَ الإيمانِ تجعلُ المؤمنَ يَنظرُ إلى كلِّ النَّاسِ على اختلافِ الألوانِ والأجناسِ مِنْ مُنْطَلَقِ ما يَجمَعُه بِهِمْ مِنْ رَحِمٍ عامَّةٍ، يَنْظُرُ إليها بِكُلِّ احتِرامٍ وتَقْدِيرٍ وإِكْرامٍ، فما بينَ النَّاسِ منْ رَحِمٍ يَجِبُ أنْ تُصانَ بالحُبِّ والوَفاءِ، ويمنع أنْ تعاملَ بقطيعةٍ وجفاء، وقد أمرنا اللهُ عزَّ وجل بتَقواه وتقوى الأرحامِ بَعْدَ الإشارةِ إلى أصلِ الإنسانيَّةِ، فقالَ تباركَ وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ، فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعلموا أنَّهُ عِنْدَما تَصفُو القُلُوبُ وتَسلَمُ الصُّدُورُ مِنْ كُلِّ حِقْدٍ وحَسَدٍ، لا يُوجَدُ مَنْ يَكْرَهُ الخيرَ يُساقُ إلى أَحَدٍ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.