خلوة كورونا الإجبارية

0 105

كتب د. النور حمد:

كتب كثيرون، في الأسابيع القليلة الماضية، عن تجربة البقاء بالمنزل، التي فرضتها على الناس، دون استثناء، وفي كل بقاع الأرض، جائحة كورونا. وأحب أن أتناول، هنا، هذه التجربة، من المنظور الصوفي. فقد عُرف المتصوفة باعتزال عالم الخارج، قصدًا، بغرض تحرير أنفسهم من أسره، بأن يخرجوا من حالة التوزع، والتشتت، إلى حالة الانجماع والانحصار. وقد كانت أمضى وسائلهم، في هذا الباب، إلى جانب وسائل التعبد الأخرى، الممارسة المعروفة، المسماة، “الخلوة”. فالخلوة سجنٌ للحواس. فهي تقيد البصر، وتقيد السمع، وتقيد الشم، إلى حدٍّ كبير، كما تقيد الحركة. يفعل المتصوفة ذلك من أجل لجم النفس، وفطمها من عاداتها، بحبسها عما تحب، وعما أدمنت من انشدادٍ للعيش في تفاصيل العالم الخارجي.

تأبى النفس الخلوة في بداياتها، مثلما تأبى الصيام. فالخلوة، صيامٌ، بغرض الفطام من الخارج، ومن عادة الانجذاب إليه، هروبًا من مواجهة النفس، ومن قيد البيت، حين لا تجد النفس، في أرجائه، مراحها. لكن، قليلون أولئك الذين ينتبهون لسلطان العادة عليهم، ولهروبهم المستمر من مواجهة أنفسهم. فالإنسان الغافل، يعيش خارج نفسه، أكثر مما يعيش في داخلها. والسبب في ذلك، أن داخله مقفرٌ، موحش. لكن، حين يكون الداخل عامرًا، تسهل الخلوة، بل وتتحول إلى متعةٍ، وفرصةٍ للنمو العقلي والوجداني.

يكتسب العبَّاد المجودون، حالة الصفاء، بالخلوة. ويكتسبها المفكرون، والفنانون، بالخلوة، أيضًا، مع اختلاف الخلوتين، واختلاف الدرجة، فيما تحققانه. يقول الكاتب، الروائي، الشهير، جيمس جويس، إنه ما انتفع، في تجربته الإبداعية، بشيءٍ، مثلما انتفع بالغربة، والوحدة. فالغربة خلوةٌ، لأن الغريب معزولٌ عن محيطه الجديد، بعوامل كثيرة. وإذا ترادفت الغربة، مع الوحدة، استحكمت الخلوة. لكن، لا بد من القول، إن قيد الخلوة، لدى المتصوفة، قيدٌ مرحلي. فهي حيلةٌ، مؤقتةٌ، لجمع النفس من التشتت. فالمطلوب، أن تفضي الخلوة، إلى ما يسمونه “الجلوة”، وهي فترة ما بعد الخلوة، حيث يحدث التعاطي مع العالم الخارجي، الذي يمتحن فيه العابد، محصول خلوته، في مضمار إحسان معاملته للأحياء والأشياء. فالخلوة التقليدية، كما لدى المتصوفة، قد انقضى عهدها، ولم تعد ممكنةً، وبديلها، لدى أهل الطريق، هو صلاة الثلث الأخير من الليل. أما جلوتها، فهي معاملة الأحياء، والأشياء، في سبح النهار الطويل. وتحكي سورة المزمل، هذه الأمر، أفضل حكاية.

دعونا نجعل خلوة كورونا الإجبارية هذه، فرصةً للتصالح مع البيت، ومع الذات، ومع الصيام، عن الانجذاب إلى صخب الخارج، واستمراء تشتيته للنفس، وصرفه للعقل، عن التفكر والتدبر. يعتاد الانسان الحرية، حتى ينسى نعمتها، فيضعها في خانة ما هو مضمونٌ، على الدوام. خلوة كورونا الإجبارية هذه، إلى جانب مزاياها الأخرى، هديةٌ من الغيب، للناس، أجمعين، ليتذكروا أن الحرية، نعمةٌ قابلةٌ للسلب، في أي لحظة؛ سواءً بالحبس، أو بالموت، لا قدَّر الله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.