خنجر التداخلات

0 79
كتب: يحيى فضل الله
.
في عينيه ركضت هواجس، معالم لا تحد، خربشات عميقة بين الذاكرة والرؤية، حدق في كل الناس، التف بهم، تداخل مع نبضاتهم، امتص معهم لحظات الانتظار، اختنق مثلهم بضوضاء المحطة ولم يقل شيئا لمن داس على أصابع رجليه بنعلين ثقيلين، كان واقعيا، ليس هناك مفر من أن تكون رجلاه جزءا لا يتجزء من أرضية ممر الدرجة الثانية الممتازة، حاول أن يجلس، إنها الممتازة، عدل عن الفكرة لأن تكوينه الجسماني لا يسمح له بالجلوس، حاول أن يمتص انفعالاته بأن يقرأ شيئا من الشعر..
رن جرس المحطة
ـ(انت يا خي القطر ده حقك؟)
ـ(ما قلنا مافي طريقة، الله)
ـ(الطريقة بعرفا براي، بس انت اتحرك من الباب)
ـ(والله ما في طريقة، شوف العربية التانية)
ـ(ما في زمن، انت ما سامع الجرس؟)
(………..ـ(
ـ(أحسن تتحرك من الباب بالحسنة)
ـ (…………….. )
ـ(خلي عندك دم في وشك)
ـ( يعني داير تعمل شنو؟)
اختلطت الأجساد على الباب، غابت الأسلحة البيضاء ودخلت السن في اللحم، عراك في مساحة ضيقة، تدخل المطيباتية وانتصر القادم الجديد بينما الآخر يصدر أنينا ويصرخ (راجل كبير تعضي بي سنونك).
رن الجرس للمرة الثانية.
الدرجة الثانية
العرق على كل جبين، صرخات الباعة، ضجيج المزدحمين داخل العربة، أقدام تبحث عن موضع بين العفش المتناثر في كل مكان.
ـ(يا أخوانا الناس القاعدين في الشباك ما يرحمونا شوية)
ـ(هبوبك يا الله)
والكل في انتظار نسمة تهب عند تحرك القطار.
سقطت شنطة حديدية ثقيلة على عجوز كانت تقف بقرب أحد المقاعد آملة في فعل المروءة، صرخت وانفجرت ثائرة ـ (الله يلعن سفر الزمن ده ويلعن ناس الزمن ده، ناس ما فيها رحمة، لا يعاينو لي صغير ولا لي كبير، غير الكترة ما عندهم شيء، ناس مسافرة، ناس راجعة ناس مسافرة)
وتنفست الصعداء وقالت (الله يهون القواسي)
ـ(معليش يا حبوبة)
قالها شاب كان يجلس وعلى فخذيه جهاز تسجيل، تحسست هي آثار سقوط الشنطة على يدها وانفعلت ـ (أحسن تمسك شنطتك عليك وتمسك لسانك كمان، عندك نفس تقول لي حبوبة والله مساخر، ما تعاين لي والله أقوم عليك إلا أخليك تتململ فوق جمرا حي، عليكم الله شوفوا محن الزمن ده)
آثر الشاب السلامة بعد أن رأى في عينيها عنفا يرغب أن يضع لنفسه موضعا.
ـ(ما تتكلم تاني، افتح خشمك تاني عشان أحشي ليك تراب، يا خايب الرجال يا ما مربى)
التفت الشاب إلى الناحية الأخرى وتحدث إلى جاره .
—————-
رن الجرس للمرة الثانية
————————-
إنها السابعة، لا شيء سوى الضجة المختلطة بالسكون المميت، السابعة مساء، كانت هذه اللحظة حتى البارحة القريبة مليئة بالعبق، لحظة لها انسيابها دون أدنى متاعب سوى ذلك العبء الحميم الذي يتسرب بين الأنفاس المخترقة لأضواء النيون الخافتة، حركة الكافتيريا تنبض بالحياة، يكون هو قد فرغ من احتساء الشاي بتمهل مفتعل رغبة منه في سجن الزمن داخل نشوته وداخل تلك التفاصيل التي تعامل بها. (رحاب). أناملها، لابد أن الأنامل لها القدرة على الحديث، بل حتى على الصراخ من خلال اللون الذي طليت به الأظافر.
ـ(ايديك ما محتاجة لي منكير ايديك محتاجة لي ايديا)
ـ(انت ليه مصر على القصيدة دي بالذات؟)
ـ(بس اللون الأحمر، اسمعي البيت ده بس، بس، لاحظي بس دي اعتراضية كيف، بس اللون الأحمر، لون حارتنا وكل بيوتا)
ـ(أنا أفتكر ده اعتراض على الزينة عند المرأة)
ـ( لا، ده إصرار على الزينة، لكن ياتو زينة، اسمحي لي أسميها الزينة التلقائية مش الارتفشيل)
ـ(يعني هسه انت معترض على المنكير العاملة أنا؟)
ـ(معترض شنو؟ أنا منحاز لي اللون ده بالذات)
ـ(أنا بفتكر انو صارخ)
ـ(ميزتو انو صارخ، درجات البنفسجي كلها جميلة)
ـ(هيي، الساعة سبعة وربع، أنا ماشة الداخلية)
ـ (ماشة تنومي يعني؟ ما نقعد شوية)
ـ(إنت ناسي ولاشنو؟ مفروض أحضر لي سمنار بكرة وما عملت حاجة غير جمع المعلومات)
ـ( ا، كدة معليش)
ـ(عندك حق الفول؟)
ـ(لا، ماخلاص حأتعشى في الداخلية)
ـ(خلاص، هاك اشتري سجاير)
ـ(ياخوانا، التوليت ما بختوا فيهو عفش)
ارتدت خيالاته، اختناق، عدل وضع رجليه، اليسرى تنملت، أحس بأنه مجبر على سفر لم يحن أوانه بعد، يرغب في التدخين، تحسس السيجارة التي قبعت داخل جيبه، تلفت حوله، لكز أحدهم في رجله، نظر الآخر إليه من فوق.
ـ(سفة، ممكن سفة؟)
ـ(أبدا ما بستعمل يا ظريف)
………..
دوت صفارة القطار
صليل الحديد حين يحتك بالحديد، الحركة لها فعلها في الناس فالارتياح دب في النفوس، بدأ اهتزاز القطار يتزايد بينما اختلطت أصوات الناس وأفكارهم بإيقاع منسجم مع سيمفونية المعادن الناتجة من حركة القطار، التقت عينان لاحت فيهما معالم مدينة يتناثر فيها الخلق من أحياء يصطخبون وأموات يمشون عليها من زمن يأتي ولا يأتي، مدينة تغلغلت فيها مدارات الانتباه المزمن وارتحالات القلق المميت وجرثومة النزلات المعوية، التقت هاتين العينان بعينين جنح فيهما الهدوء ولونت الرغبة فيهما الدفء والخصوبة، أصلحت هي ثوبها، لاحظ هو تنفسها حين نظر إلى صدرها الناهد، ابتسم، شكل عينيه بحديث مذاب، حرك فمه بحركة تقول بدون صوت (نازلين وين يا سكرة؟)
أحس بكف ثقيلة على كتفه، رجل ناهز العقد الرابع، نظر إليه بخبث وقال (ذوقك جميل) ، دهش، ماتت على لسانه الكلمات، أحس بالخوف. (الحلوين نازلين كوستي) ، ضحك الرجل، امتد الحديث بينهما، كان الرجل ثرثارا لا يخلو من ظرافة وطرافة، حكى عن مغامراته، (دون كيشوت) في عقلية (دون جوان)، أخرج الرجل من جيبه مجموعة من الصور لفتيات أينع الحسن فيهن واختلف وكانت هناك صورة عليها ختم لشفايف حمراء.
…………
تك.. تك.. تك
————–
ضربات حادة ومتقطعة
ـ(التذاكر يا جماعة)
تململ الركاب، حاول بعضهم الهروب فنجح وفشل البعض فتكاثرت على جيب الكمساري النقود وقلت على أيدي الركاب الإيصالات الصفراء. إيصالات الغرامةـ
ـ(انتي يا حاجة تذكرتك)
ـ(تذكرة شنو؟)
ـ(الله يا حاجة، انتـي مش راكبة في القطر ده؟)
ـ(آجي يا أخواتي، هسه انت شايفني قاعدة في مقعد؟)
ـ(في مقعد، في الواطة، طايرة، ياحاجة المهم تذكرتك، تذكرتك)
ـ(هـي، كدي)
ـ(ماشة وين حاجة؟)
ـ(ودعشانا)
ـ(طيب ودعشانا، تدفعي حكاية……)
ـ(لا بدفع وما عندي)
ـ(ده كلام شنو يا حاجة؟)
ـ(ياهو كلامي وما بزح من هنا شبر)
صمت الكمساري هنيهة، نظر إليها بيأس ثم تحرك للآخرين متخطيا غابة السيقان على الممر .
……….
الحصاحيصا
—————
أرق لا تمتصه إلا الحركة، عاد الاختناق بتوقف القطار، تبدو الوقفة أبدية، احتراس، هكذا يقولون، فكر في الخروج واستخدم الشباك كباب رغم ضخامة جسمه، لامست قدماه الأرض، رغبة عنيفة أن يطلق ساقيه للريح، تجول في أنحاء المحطة، دار حول القطار بالجهتين، إحساس بالكأبة يشوبه ارتياح جسماني حيث تحرر الجسم من عقاله وقوقعته داخل الممر، تمـدد على التراب، حدق في السماء، تململ على جنبه الأيمن، وخزة حادة، إنه الخنجر، لازال في مكانه مثبتا على حزام البنطال، لابد من التسلح داخل فناء الجامعة، أحداث العنف الأخيرة تبعها هوس التسلح، يتذكر الآن، كان يقلب في كتاب (تقويم السودان للعام 1945م)، كان ممتنا للجهد الذي بذله (الريح العيدروس) ـ في تقديمه لمعلومات أراد أن يستعين بها في بحثه عن العلاقات المصرية السودانية آنذاك، كان يقرأ بالتحديد عن اتفاقية 1899م (ولما كان السودان جزءا لا ينفصل عن مصر فإن وجود الجنود البريطانيين في السودان يقوم على نفس الأساس الذي يقوم عليه وجود جنود بريطانيين في مصر نفسها وعلى ذلك فإن الحكم على وجود الجنود البريطانيين في السودان كحكم وجود الجنود البريطانيين في مصر، هذا والخلاف بين الطرفين المصري والبريطاني بشأن السودان قد وصل إلى عقدة يقدر كل المراقبين السياسيين بأنها لا تحل بالمفاوضات والرأي المصري…..)
خبط على الباب، ترك الكتابة، فتح الباب، اندفع قدورة يلهث متعبا.
ـ(جاطت، خبط تقيل، النور وعبيد في المستشفى)
ـ(المستشفى؟؟)
ـ(النور مطعون، حالتو خطرة، عبيد مفلوق، نزف شديد)
ـ(وين الكلام ده؟)
ـ(قدام صناديق الاقتراع، كدي هسة قوم)
ـ(مؤسف، نمشي وين؟)
ـ(اجتماع لازم نستعد)
ـ(حتكون حرابة يعني؟)
ـ(ما معروف، لازم كلو زول يحمي نفسو)
اتفق الاجتماع على ضرورة التسلح الفردي، لم يقتنع بالفكرة تماما، لم يكن ميالا إلى العنف، لكن (رحاب) ـ أجبرته على التسلح واشترت خنجرين، أعطته واحدا وعلى عينيها جسارة و تمرد.
ـ(انتي ما محتاجة لي خنجر يا رحاب)
ـ(برضو؟ زي المنكير)
ـ(عندك سلاح أقوى من كده)
ـ(لا عليك الله أقنعني لامن أروح في شربة موية)
ـ(عيونك يا رحاب، عيونك أخطر من القاذفات)
ـ(أولا، دي ردة، لأنو ناس الحقيبة قالوها قبلك)
ـ(عارف، جوز عيونو مدافع السواحل)
ـ(ثانيا، دي رومانسية ثورية ساكت)
لا زال الخنجر في مكانه، ربما لأنه من (رحاب)، البحث عن طوطم متعلق بها، سفر إجباري، هي إلى بورتسودان وأنا إلى الأبيض وبين شرق وغرب انهزم الزمن العاطفي أمام الزمن السياسي، لم يبق إلا التفلسف، الجامعة تقفل أبوابها ولأجل غير مسمى، أخذ نفسا عميقا، جلس، تفحص أرجاء المحطة بنظرة لا مبالية، هب واقفا، دوت صفارة القطار، هرول الركاب، حصل على- سفة- من أحدهم، كورها على راحة كفه، وضعها على لثة شفته العليا وبصق مفكرا في إمكانية الصعود إلى مكانه.
……….
السطوح
—————
كان مكتظا بالركاب، منهم من تعود على معانقة النسمات على السطح.
ومنهم من ضاقت به ذات اليد فلاذ بالسطح هربا من عيون الكمساري وبديلا عن مطاردات الشرطة ومنهم من جعل التسطيح هواية له هربا من الزحمة في الداخل فإذا السطح يضيق وتتلاصق عليه الأجساد.
انتفض أحدهم هاربا لأنه حظي بنظرة قاسية من الشرطي الذي كان يهم بالصعود، ركض مسرعا ليتخطى العربة التي داهمها البوليس، تجمد فجأة بعد أن قابل شرطيا آخر على جانب العربة الثاني، حوصر سطح العربة بشرطيين، أخرج أحدهم مسدسه وضخم صوته:
ـ(يا سلام، يا سلام على النسيم العليل، يا الله اتحركوا انزلوا على الحراسة وبدون فوضى)
اقترب أحد الركاب من الشرطي وبعد ممانعات وصلت حد الدلال والغنج، همس له الشرطي واتجه الراكب إلى بقية الركاب الذين صاروا حجارة صامتة إلا أن دواخلهم كانت تفكر في المصير، قابل لسان الراكب أذن بقية الركاب:
ـ(شوفوا ليهم حاجة ياجماعة وارتاحوا)
بدأت النقود تتوافد على يد الراكب، جمعها، ناولها للشرطي الذي جال بنظره على الركاب، حولهم سريعا إلى أرقام ونظر إلى النقود قائلا:
ـ(خلصت منهم كلهم؟)
ـ(كلهم، كلهم يا جنابو)
(بس دي بسيطة)
ـ(معليش، قدر الحال)
ـ(وانت متأكد إنو كلهم دفعوا)
ـ(طبعا، متأكد)
. (إنت، إنت دفعت؟)
ـ(لا، معليش، نسيت)
وأدخل الراكب يدا مرتجفة في جيبه وناول الشرطي ورقة من فئة الخمسة جنيهات وارتاح الركاب على السطح وتعالى شخير بعضهم طاغيا على أحاديث البعض .
……….
سنارـ التقاطع
——————
صراخ حاد، ولولة مكثفة، هرول بعدها الناس إلى عربة من عربات النوم، استطاع أحد الأذكياء أن يسرق شنطتين عادت بهما -ست النفر- من القاهرة، إنها شيلة ابنها حسن الذي اهتدى أخيرا إلى الزواج بعد أن اقترب من الأربعين، تفرق الناس مع صفارة القطار، الكل يجري إلى مكانه خوفا من أن يضيع.
………..
عربة البوفيه
——————
أنزل عمامته على فخذه وخلع نظارته ومسح على رأسه ثم نظر إلى عبدالقيوم قائلا ـ(شوف يا عبدالقيوم هي المسألة، المسألة كلها ما محتاجة غير إنك تكون متابع، لأنو المتابعة للأمور البتحصل في السوق بتخليك تضبط استخدام السلع التجارية، يعني ياتو السلعة ممكن تفكها هسة وياتو صنف ممكن تخزن دلوكت وبعدين تفهم حاجة مهمة إنو ما كل سلعة قابلة للتخزين، يعني في سلع ما ممكن تتخزن أكثر من شهرين وسلعة تانية تستحمل تتخزن لمدة سنة يعني لابد من فهم قوانين التخزين الخاصة بالسلع، أنا هسة المخزن بتاعي تقريبا شوالات العيش حوالي عشرة آلاف…….)
ـ(فتريتة؟)
ـ(لا، أبدا، مايو وحأنتظر إنتاج هبيلا باذن الله)
ـ(والله هسة أنا مفكر في الزيت)
ـ(ما أنا متكل على كوتات التموين، ده طبعا بمساعدة عباس)
ـ(عباس الرسمي؟ باللاهي، ياخي ده راجل مفيد)
وأحضر الساعي عشاء فاخرا، وضع عبدالقيوم مسبحته الصغيرة ذات الحبيبات المزركشة اللامعة في جيبه وشمر كم جلابيته السكروتة بعد أن وضع مرفق اليد اليسرى على التربيزة، مصطفى يعلو نفسه حين يأكل مصدرا أصواتا نهمة، قال وفمه مليء بثلاث لحمات وخمشة من الجرير.
ـ(بعد ما أشوف أرباح السنة دي، بعد الجرد طوالي حأكون عريس)
ـ(يا راجل، بعد ده إنت عندك نية عرس؟)
ـ(هو البعرس غيرنا منو؟، نحن بس الممكن نعرس وبعدين القروش أصلها ضايعة فأحسن الواحد فينا يستمتع بزينة الحياة الدنيا، ولاشنو؟)
ـ(والعروس؟ نقيتا؟)
وتغير صوت مصطفى إلى همس مشحون بالشهوة ـ(نازك، نازك بت حسنين، يا دوبك كدة في كادوقلي العامة)
ـ(في الثانوية العامة بنات؟)
ـ(يعني حتكون في العامة بنين؟)
وانتشر في عربة البوفيه ضحك متخم وصفيق.
………
كوستي
—————
اختلط ضجيج الباعة والمسافرين، كوستي تلك المدينة ذات الحيوية العالية، كان قد تمدد على الأرض مدة ارتاحت فيه عضلاته من التقلص، بعدها أخذ يتجول بين أرجاء المحطة، أحس بانتعاش بعد أن شرب كوبين من الشاي على التوالي، الرغبة في المشي ازدادت، تابع خطواته دون هدف، أصوات البوابير من الورشة تختلط برائحة الزيوت القديمة التي تمتزج برائحة السمك، هربت خطواته من الضجة والرائحة بحثا عن نسمة عليلة، أدخل يده في جيبه، أخرج سيجارة من العلبة التي اشتراها في المحطة، اتجه صوب شجرة نيم ظليلة تقابل شارع الإسفلت المجاور للمحطة، جلس تحتها وأشعل سيجارته، أخذ نفسا عميقا وهو يتابع عربات الكارو واللواري والعربات الصغيرة وعربات التاكسي البيضاء وهي تخرج أو تتوغل داخل المدينة، أحس بوخز الخنجر على جنبه، قفزت إلى ذهنه الهراوات والدماء التي سالت، عدل من وضع الخنجر، إنها رحاب تلك المتمردة الجميلة، إنها تتجلى لي من خلال هذا الخنجر، تتعمق صورا في داخلي، كلما أحس بالخنجر أشك في أنني أصبحت طوطميا، ترى هل كانت محقة حين اشترته لي؟
ـ(الخنجر معاك؟)
ـ(خليتو في الداخلية)
ـ(ليه يعني؟ تقيل؟ ما بتقدر تشيلو معاك؟)
ـ(رحاب، ما ضروري كل يوم الواحد يشيل معاهو خنجر، يعني بس…)
ـ(بطل التنظير الكثير وحقو ترجع الداخلية تجيبو)
ـ(رحاب، ما ضروري)
ـ(شنو الما ضروري، ممكن تحصل أي كعة)
ـ(نحن وين؟، في تكساس؟)
ـ(في تكساس، في الفسطاط، المهم لازم تكون مسلح)
ـ(رحاب، إنتي خايفة علي؟)
ـ(عليك الله بطل الرومانسية بتاعتك دي وارجع الداخلية)
ـ(إنت مدياني فرصة أكون رومانسي؟)
ـ(يا ود، خليك قدر الموقف)
ـ(طيب، ألقاك وين؟)
ـ(في الكافتيريا، طبعا)
لا أدري كيف أصبح الخنجر مألوفا لدي؟ (رحاب) لديها القدرة على جعل كل الأشياء تبدو أليفة ومنسجمة، حتى السلاح، قدرة متميزة في التعامل مع الأشياء، كل الأشياء، أنا مصر على أنها تستطيع أن تكون مركزا لكل الكون، يبدو أنني أعطيها مميزات خارقة، طبعا إنه الحب، الحب يفعل العجائب.
صفارة طويلة، ركض مسرعا نحو القطار.
……….
الغبشة
————
تناثر الركاب على الأرض، رمال ناعمة ومغرية للنوم خاصة أن كثرة الأمطار في المحطات القادمة أوقفت القطار.
ـ(اطعن بي هنا)
تجمع بعضهم يلعبون الضالةـ
(خلي يطعن هنا وانت أطعن هنا)
ـ(انت راجل براك، هنا)
وجاءت صرخة جميلة:
ـ(أيــوة الشاي.. الشاي السخن يا)
وتحول الصوت إلى غناء مبحوح:
ـ(الشاي جميل
هبهانو تقيل
ومويتو من النيل)
ودوت صفارة القطار فاهتزت جوانب بائع الشاي وبصق ـ السفة ـ بعد أن وضع براده على الأرض.
ـ(الله يلعنك يا الشؤم)
داعبه أحد الركاب وهو يركض (معليش يا عمو المرة الجاية)
……….
الدرجة الثانية الممتازة
————————–
كانت هناك على الممر الذي هو فيه يدان تعبثان بنهدين لم يتذوقا اللمس بعد، وتضايقت الصبية وقالت بصوت احتواه الأنين:
ـ(يمه، يمه، القاعد معاك فوق الكرتونة منو؟)
ـ(يا منى مالك؟) ردت الوالدة التي كانت قرب التوليت.
ـ(الحته دي ضيقة يمه). قالت منى والأنين لا زال في صوتها، قام صاحب اليدين العابثتين من شنطته التي شاركته فيها الصبية الجلوس وقال بصوت مرتبك (طيب، ارتاحي كويس)
ـ(لا، لا) قالت منى بغضب .
ومن بعد بعيد قالت والدة منى (يامنى مالك يابت، يا حماد، شوف أختك مالا)
ـ(اقعدي خلاص) قال صاحب اليدين العابثتين وانفجرت منى ـ (ما تتكلم معاي يا وسخ يا صعلوك).
وتدخل حماد بعد أن فهم من عيون أخته ما الذي حدث وصفع صاحب اليدين العابثتين واشتبكا حتى أن المسافة الضيقة في الممر صارت أوسع على بقية الركاب، عاد هو من أفكاره المتشعبة ليراقب الموقف الذي يحدث الآن، صرخة حادة من أحد المشتبكين وارتطم جسمه بأرضية الممر بينما وقف حماد وفي يده سكين تسيل منها الدماء، تلطخت أرضية الممر بالدماء وتجمهر الركاب وأحس هو بالغثيان والدوار، انتابته رغبة عنيفة للانفلات من هذا المكان، تجمدت أفكاره على شيء واحد هو الخنجر، تحسسه جيدا، أخرجه من مكانه، الاشتباكات أمام صناديق الاقتراع، السكين في يد حماد، عصى من السيخ، عيون رحاب المتمردة، الخنجر في يده، شعارات انتخابات الجامعة، الدماء على الممر، القطار يبطئ السرعة، الخنجر في يده، أخرج رأسه من الشباك، بدأت ملامح المحطة تبدو، الغثيان، الدوار، ضجة الركاب، الدماء على الممر، القطار يبطئ السرعة، شعارات الانتخابات، ضحكة (رحاب) الساخرة، الخنجر في يده، رأسه يطل من الشباك، الرمال بدأت تنمو عليها الخضرة، صبية وأطفال يركضون، يسألون القطار خبزا، غثيان، دوار، قذف بالخنجر، انغرز على الرمال التي بدأت الخضرة تنمو عليها، تسابق الأطفال نحو الخنجر يحسبونه خبزا واستطاعت صبية أن تفوز به لكبر سنها ولخفتها، أخذت الخنجر واتجهت نحو القرية وهي تصرخ ـ
(يـمه، يـمه
البشارة
البشارة
يـمه
البشارة)
وابتسم هو من خلال دموعه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.