خيارات السودان في مصيدة حرب القرن
(1)
وأخيرا، وبعد نحو ثلاثة عقود من اندحار حكم الدرق في إثيوبيا، وصعود تحالف الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية، يبدو أن أسوأ مخاوف جبهة تحرير شعب تيغراي التنظيم الأكثر حضوراً من بين مكوناتها الأربعة، التي ضمت أيضاً الحزب الديمقراطي الأمهري، والحزب الديمقراطي الأورومي إلى جانب الحركة الديمقراطية لشعب جنوب إثيوبيا، قد تحققت بالفعل وحكومة رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد علي تعلن بالأمس حالة الطوارئ في إقليم تيغراي، يرقى في واقع الأمر إلى درجة إعلان حالة حرب على خلفية سلسلة من التطورات السياسية والتصعيد جراء احتدام خلافات جذرية بين قيادة حكومة الإقليم وقيادة الحكومة المركزية، تراكمت في السنوات الأخيرة حتى أدت للوصول إلى حافة هاوية الحرب الشاملة.
(2)
كان سقوط حكم منقستو في مايو 1991 على يد التحالف الرباعي، بمثابة سقوط لحقبة تاريخية كاملة من السيطرة المركزية على السلطة، في بلد شديد التنوع العرقي، استمرت لقرون تحت التاج الإمبراطوري تحت سقوط آخر ورثة عرشها الإمبراطور هيلاسلاسي، وتواصلت أيضاً لربع قرن تحت سيطرة الجونتا العسكرية بقيادة منقستو هايلي مريام، ولذلك كانت أكثر المهام خطورة في أجندة تحالف الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية هي كيفية إعادة صياغة معادلة السلطة وفق هندسة سياسية جديدة مرتكزة على قدر وافر من نظام فدرالي واسع الصلاحيات يصل إلى حد الإقرار بحق تقرير المصير لمكوناتها الإثنية المختلفة بالطبع وفق استحقاقات دستورية محددة.
(3)
ليس سراً أن جبهة تحرير تيغراي بزعامة الراحل ميليس زيناوي كانت التظيم الأكثر نفوذاً ودوراً في رسم هذه المعادلة الجديدة، ومع أنها نجحت في بسط سيطرته على السلطة منذ منتصف العام 1991، وحتى وفاة زيناوي في العام أغسطس 2012، إلا أنها كانت تتحسب دائماً لسيناريو اليوم التالي “الخطة ب”، مدركة أن تعقيدات التركيبة الإثنية الإثيوبية، وإكراهات الصراعات السياسية والخلافات الحزبية بين مكوناتها، تجعلها تتسم دائماً بالهشاشة ومرشحة للوصول إلى طرق مسدود، لذلك انتبهت الجبهة منذ وقت مبكر إلى الاستفادة من سيطرتها على السلطة المركزية في تنمية وتطوير إقليم تيغراي وجعله مستعداً باستمرار، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، في أي وقت للانفصال في دولة مستقلة تتوفر له أسباب الحياة إذا فرض عليها اللجوء إلى هذا القرار، سلماً أو حرباً.
(4)
على الرغم من محاولة جبهة تيغراي الحفاظ على تماسك التحالف الإثني الرباعي للجبهة الشعبية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية بعد وفاة ملس زيناوي في عام 2012م، وضمان انتقال سلسل للسلطة لخليفته هايلي مريام ديسالين من جبهة شعوب جنوب إثيوبيا، إلا أن كيمياء التحالفات داخل الجبهة الأم تضعضت ببروز تحالف داخلي بين الأورومو والأمهرا أوصل أبي أحمد علي كأول شخصية من عرقية الأورومو في تاريخ إثيوبيا إلى سدة السلطة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد بدأت عملية إقصاء منظمة لتفكيك سيطرة التيغراي التي بنوها على مدار ربع قرن، مما زاد من حدة الصراعات على خلفية هذا الفرز السياسي الذي قاد للمزيد من الانكفاء لجبهة تحرير تيغراي إلى إقليمها، وانتهى التحالف بتشكيل أبي أحمد لحزب سياسي جديد، ليبدأ فصل جديد من التنازع المفتوح على المآلات كافة.
(5)
كان قرار البرلمان بتأجيل الانتخابات التي كانت مقررة في أغسطس الماضي بسبب تداعيات جائحة كورورنا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد رفضت حكومة إقليم تيغراي الاعتراف بها، وبادرت إلى عقد انتخابات في الإقليم في سبتمبر المنصرم، ليرفض أبي أحمد من جانبه الاعتراف بها، وردت تيغراي باعتبار أن ولاية أبي أحمد في رئاسة الوزراء انقضت في 5 أكتوبر الماضي، لتوقف الحكومة الفدرالية من جهتها تمويل حكومة مقلي، وهكذا تطورت الأحداث متلاحقة بين شد جذب حتى أعلنت أديس أبابا قرار مجلس الوزراء الفيدرالي بإعلان حالة الطوارئ في إقليم تيغراي واعتبار أن الوضع فيه وصل مرحلة لم يعد ممكناً إيقافه أو السيطرة عليه عبر الآليات العادية، وأوكلت إلى مجموعة عمل بقيادة رئيس أركان الجيش الإثيوبي لإنفاذ حالة الطوارئ.
(6)
الوقوف على هذا الخلفية المختصرة يعطي فكرة عامة عن التطورات التي قادت لأن تضع الدولة الإثيوبية على حافة حالة حرب مع أحد أهم أقاليمها الفدرالية، إن لم يكن الأهم من ناحية الوزن السياسي والعسكري في معادلات واحتمالات تماسك إثيوبيا، وبحكم الخبرات والمقدرات التي توفرت للإقليم وقيادته على مدى ثلاثة عقود تحسباً لمجيء مثل هذه اللحظة التي طالما استعدوا لها، ولذلك فإن أهمية هذه التطورات المتسارعة تتجاوز مجرد نزاع بسط نفود أو إظهار قوة بين العاصمتين أديس أبابا ومقلي، ليتحول إلى امتحان وجود مصيري لتماسك وحدة الدولة الإثيوبية، إذ لا شك أن تبعات صراعات الإرادات المفتوح هذا سيمتد إلى الأقاليم الأخرى، خاصة في ظل أن اشتداد أوار الخلافات الإثنية، وحتى الصراعات السياسية ليس بين العرقيات المختلفة، بل حتى داخل الإثنية الواحدة، وهي حالة يجسدها أبي أحمد نفسه الذي يجد معارضة متنامية من داخل عرقية الأورومو التي ينتمي إليها، وأدت إلى تشقق المعسكر مع حلفائه بالأمس، بمن فيهم جوهر محمد المعتقل حالياً. ولذلك فإن هذا التنازع لن يظل مقتصراً على الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم تيغراي، وهو ما ينذر بتصدع وحدة الدولة بكل تبعاته وتداعياته الداخلية والخارجية.
(7)
ومع ما يبدو عليه الوضع المنذر وكأنه صراع إثيوبي- إثيوبي أو شأن داخلي، إلا أن حقائق الجغرافية السياسية في هذه المنطقة من القرن الأفريقي وتوازنات القوى بين دولها، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنها تأثيراتها الاستراتيجية البالغة الخطورة تتجاوز حدودها المحلية لتصبح شأن إقليمياً أصيلاً بامتياز تتفاعل فيها ثلاثة قوى رئيسية هي السودان، وإرتريا، إلى جانب إثيوبيا نفسه، دون أن يعني ذلك أنها ستقتصر على هذه الأطراف الثلاثة فقط، فمن المؤكد أن أطرافاً أخرى سواء إقليمية أم دولية ستدخل على خط النزاع هذا بما يخدم مصالحها، مما سوف يزيد من تعقيدات الوضع المعقد أصلاً.
(8)
موقع إقليم تيغراي الحدودي بين الدول الثلاث هو الذي يعطي هذه الأهمية الاستثنائية لهذا الصراع خارج نطاقه الإثيوبي المحلي، فالإقليم يقع في شمال البلاد متاخماً لإرتريا، وهي المنطقة التي شهدت الحرب المدمرة بين البلدين أواخر تسعينيات القرن الماضي ولا تزال ذيولها حاضرة، والتي لا يزال يؤججها التحالف الوثيق الذي انقلب إلى عداوة وخصومة تاريخية بين جبهة تيغراي والجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بقيادة أسياس أفورقي، ومن شأن دخول أديس أبابا في حرب مع الإقليم إلى وضعه في ما يشبه الكماشة بين الجيش الإثيوبي والجيش الإرتري، خاصة وأن جبهة تيغراي لم تعترف بمصالحة أبي أحمد وأفورقي وتسوية النزاع الحدودي بين البلدين، وإعادة منطقة زالمبيسا لإرتريا، وفي ظل هذه المعادلة ستجد إرتريا طرفاً في هذا الصراع المسلح سواء بإراداتها لدعم حليفها أبي أحمد، أم لتصفية حسابات صراع أفورقي ورفاق حليفه الراحل زيناوي.
(9)
أما السودان فسيجد نفسه في كل الأحول مجبراً على دفع فاتورة تبعات هذه الحرب سواء اقتصرت على أطرافها الأثيوبية الداخلية أم امتدت بدخول إرتريا، ففضلاً عن تحمل التبعات الإنسانية بتدفق اللاجئين، إلا أنها تشكل مهدداً امنياً استراتيجياً للسودان الذي يشهد شرقه اضطراباً سياسياً وصراعات قبلية لها امتدادتها في الإقليم، مما يجعله مرشحاً أيضاً لإغراء بعض أطراف الصراع في شرق السودان لدخول لعبة التمرد المسلح بالاستفادة من أجواء الحرب المجاورة، غير أن العامل الأكثر تأثيراً على الموقف السوداني هو التسابق بين أطراف الصراع للسيطرة على مثلث أم حجر- الحمرة- حمداييت الواقع في الحدود بين البلدان الثلاثة، خاصة إذا حاولت إرتريا بالاتفاق مع إثيوبيا محاصرة التيغراي ومنعهم من استخدام المنفذ الوحيد الخارجي لهم على السودان في محور الحمرة – حمداييت. ويذكر أن جبهة تيغراي في إطار تحسباتها للانفصال عن إثيربيا أعادت رسم الحدود بما يضمن لها حدوداً دولية مع السودان.
(10)
مهما يكن من أمر فإن اندلاع حرب شاملة بين أطراف النزاع الإثيوبية الداخلية، أو بدخول إرتريا عاملاً في هذا الصراع، فإنه ليست هناك أية مصلحة للسودان في تطور الأوضاع بهذا الاتجاه، بل على العكس من ذلك ففي ظل أوضاع سياسية واقتصادية انتقالية هشة في البلاد، وفي ظل عدم وضوح رؤية أو توافق على مشروع وطني جامع وفي ظل انقسامات متزايدة، فإن أية حرب على حدود السودان الشرقية ستشكل خطراً داهماً على استقراره ووسلامه ووحدته، ولذلك فإن الحكومة السودانية لا تملك ترف الانتظار والفرجة على التصعيد الجاري حالياً، وعليها أن تتحرك بأسرع ما يمكن وعلى أعلى مستوى للتوسط بين الأطراف المتصارعة ونزع فتيل الحرب الشاملة في الإقليم. وعليها أن تحافظ على الحياد وعلى علاقة وثيقة بالأطراف كافة وتجنب الانحياز إلى أي طرف مهما كانت المبررت حتى تستطيع الحفاظ على لعب دور وسيط نزيه، وفي الوقت نفسه فالمطلوب من القوات المسلحة أن تحمي المنافذ الحدودية وألا تجعلها سبيلاً لجر السودان إلى معركة مفروضة لن يحقق من ورائها سوى المزيد من المخاطر على البلاد.