ديسمبر 1964: الأحد الأسود باكورة الثورة المضادة

0 70

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

كتب الدكتور سلمان محمد سلمان كلمة في مناسبة ذكرى ثورة أكتوبر 1964 قال إنها، رغم أن مسألة الجنوب كانت من بواعثها، سرعان ما انصرفت عنها وعادت حليمة لقديمها. وسلمان في الواضح من حملة نظرية “الفشل وإدمان الفشل” لمنصور خالد التي كانت الأصل في كتاباته لتاريخ السودان المعاصر. وهي نظرية أشبه بمباراة لكرة القدم. ينقسم فيها السودان إلى شمال شرير فاشل وجنوب خَير ضحية.

وهذا تبسيط لا أثر له في الواقع. وإنما هو من اصطناع المهني في القضاء الواقف (المحاماة أو التجاحد في وصف الترابي) الذي هو أصل تدريب منصور وسلمان معاً. فليس الذي ينظرا فيه مسألة سياسية التدافع فيها مختلف أشكاله وقواه ومراميه، بل هي “حجة” بين مدعى ومدعى عليه يأخذ فيها المحامي جانب موكله لا يريم. وصدف أن كان الجنوب هو موكل سلمان ضد الشماليين قاطبة. وهذا ما يجعل الكتابة في حالة التجاحد القانونية هذه مرافعة يحشد فيه المحامي بينات تثبت حق موكله. ويتغاضى عن غيرها لأن تلك مهمة محامي الخصم الذي قد يغفل عنه فيخسر. أما البحث العلمي الذي يزعمه منصور وسلمان فخلاف ذلك. فالباحث فيه هو من يعرض، بعرف المهنة وضميرها، لحجج الأطراف جميعاً. فلا موكل له سوى البحث عن الحقيقة.

لم أجد في بحث سلمان ذكراً ليوم 6 أكتوبر 1964 كيوم أسود على ثورة الشعب. وهو اليوم الباكر للثورة المضادة على أكتوبر. ففيه انقسمت الخرطوم، التي وحدتها الثورة أكتوبر، إلى شمال وجنوب بسبب طائش إن لم يكن مدبراً. فاعتدى جنوبيون، وهم قلة في المدينة، على الشماليين من طرف. وكان أولئك الجنوبيين عائدين من مطار الخرطوم ساخطين لتأخر طائرة كلمنت أمبور، وزير الداخلية، في العودة من الجنوب للخرطوم فظنوا الظنون عما قد يكون حدث له. وامتصت جماعات من الشماليين صدمة العدوان ثم ردت بفظاظة وبغير رحمة.

وأقول انقسمت الخرطوم بحق. فأنتهى أكثر الجنوبيين في ذلك اليوم وما بعده إلى أمن إستاد الخرطوم وأم درمان شفقة به من التعديات. وصب ذلك اليوم الماء البارد على الثورة. وإن طمع سلمان في أن تنجز أكتوبر ما علقته هي على نفسها، وما أمله منها، كان عليه أن يسأل ما الذي اكتنفها فأفسدها وأفشلها. فلم تكن ثورة أكتوبر، ولا أي ثورة أخرى، حالة “أركانحرب” ناجزة تؤمر فتطاع، وتُقدر فتنفذ. لقد أحدقت بأكتوبر، ككل ثورة، الثورة المضادة. ولم يكن الأحد الأسود باكورة نشاط تلك الثورة بل الضربة المميتة الأولى التي لم تقل أكتوبر بعدها أحيايا العافية. لقد ضرب مدبرو الأحد الأسود الثورة في مقتل: في بوادر معنى الاخاء اللطيف الذي سينعقد للوطن الجديد.

أنقل لكم هنا وثيقة من رسائل السفارة الأمريكية عن الأحد الأسود مما عرّبه الأستاذ محمد على محمد صالح. وأنبه إلى الجديد الذي جاءت به حتى لو أفسدت القراءة والاستنتاج المستقلين. فقد كان يقال لنا إن الجنوبيين انتظروا الطائرة لاستقبال الوزير ولما لم تأت في موعدها ظنوا بالشماليين الظنون فخرجوا متظاهرين. وسترى في الوثيقة أن الجنوبيين الذي احتشدوا في المطار لم يأتوا للترحيب بالوزير، بل للتظاهر ضده لأنه قبل بالتعاون مع الشماليين. وكانوا بالتالي طرفاً في صراع بين من قبلوا التعاطي مع الشمال لحل مسألة الجنوب ومثلهم الشهيد وليم دينق، ومن استعلوا على ذلك بقيادة أقري جادين. وكلاهما من حزب سانو. فلم تكن حادثة المطار بالبراءة التي صوروها لنا. كانت جزء من عقيدة سياسية من الروافض للتعاطي مع الشماليين. وهي عقيدة انتهت بنا إلى يوم أسود (وأيام سوداء تتالت) راحت في أرجل مثل بحث سلمان الذي هو مرافعة متطوعة عن موكل لا نظراً محيطاً للمسألة. فإلى تقرير السفارة

 

اشتباكات الجنوبيين

تعليق:

ظهر يوم الاحد 6-12، سير عدد كبير من الجنوبيين مظاهرات الى مطار الخرطوم لاستقبال كلمنت امبورو، وزير الداخلية، الذي كان زار المديريات الجنوبية. وكان جزء كبير من المتظاهرين يحمل لافتات ويردد شعارات معادية للوزير. وذلك لاتهامه بالتعاون مع الشماليين ضد مصالح الجنوبيين. وهتف بعضهم “داون داون (يسقط يسقط) كلمنت امبورو”. وكان بعضهم يضع شارات سوداء على أذرعهم كرمز لغضبهم.

وعندما تأخرت طائرة الوزير، وثلاث مرات أعلن المطار تأجيل وصولها، ولم تصل، وفي السادسة مساء، تحولت المظاهرات الى تخريب بدأ من المطار واستمر حتى منتصف الخرطوم. وانتشرت إشاعات بأن الجنوبيين بدأوا في قتل الشماليين. ولم تكن هناك شرطة كافية تحمى المواطنين. وسارع مواطنون كثيرون وسلحوا أنفسهم بالعصي والسياخ.

ووقعت اشتباكات مع الجنوبيين في حي المطار، وبرى، ووسط الخرطوم، والخرطوم بحري، وشمبات، وغيرها. وشبت حرائق في مدرسة كمبوني، وفي دار النشر المسيحي.

ومع بيانات من الحكومة من الاذاعة بان يطيع الناس القانون، نزل وزراء الى الشوارع لتهدئة المواطنين. وهتف مواطنون ضدهم، بسبب غياب الشرطة وقوات الامن.

ووقعت هجمات دموية كثيرة ومتفرقة على جنوبيين. ونُشرت أخبار بأن جنوبيين غرقوا وهم يحاولون الهروب، وأن جثث جنوبيين ألقيت في النيل. وان ماء النيل طفح بجثثهم. وان مواطنين في شمبات والحلفاية تسلحوا بسيوف، وركبوا خيولا، وأعلنوا الحرب على الجنوبيين. وأن المستشفيات امتلأت بالجرحي، وأن الجنوبين لجأوا إلى استادي الخرطوم وأم درمان، حيث تحميهم قوات الشرطة.

في اليوم التالي، نشرت الصحف أخبارا بأن عدد القتلى الجنوبين وصل الى المئات، بينما وصل عدد القتلى الشماليين الى العشرات.

نشرت الصحف، كلها، اتهامات عن وجود “أيدي اجنبية” وراء اضطرابات الجنوبيين. وان مظاهرة المطار كانت خُططت مسبقاً. وأن اموالا وزعت على مشتركين فيها. وعلى شراء الميكرفونات واللافتات.

وفي اليوم التالي، نشرت صحيفة “الاهرام” المصرية تصريحات ادلى بها جيمس لوك، العضو الجنوبي في مجلس السيادة، هاجم فيها الشماليين، حكومة وشعباً. وهاجم وزير الداخلية الجنوبي كلمنت امبورو. وقال إنه “عميل للشماليين”. وهاجم سر الختم الخليفة، رئيس الوزراء. وعارض زيارة الخليفة للجنوب. واعترف بانه أيد مظاهرات الجنوبيين في مطار الخرطوم. وقال: “لن يهدأ السودان ما لم ينفصل الجنوب”.

وفي نفس اليوم، اصدرت جبهة الجنوب، الحزب الجديد الذي شكله الجنوبيون، بياناً دعت فيه الحكومة لترحيل الجنوبيين في استادي الخرطوم وامدرمان الى الجنوب. ولترحيل الشماليين في الجنوب الى الشمال.

ونشرت صحيفة “الميدان”، لسان الحزب الشيوعي، أرقام سيارات قالت إنها لمجموعات من القساوسة وأجانب ودبلوماسيين أجانب، هم الذين نظموا مظاهرة المطار.

وغداً نقف عند مساعينا في الحزب الشيوعي وحركة الطلبة لدرء مصيبة الأحد الأسود.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.