ديفيد ووكر: نداء من أجل الحرية والمساواة و”الارتقاء العِرْقِيّ”

0 101

كتب: ناصر كرم رمضان

.

كان “ديفيد ووكر” David Walker (1797 -1830م) قائدًا وناشطًا أمريكيًّا من أصل إفريقي، كان شجاعًا وصاحب رؤية. لقد وضع حياته على المحكّ من خلال المطالبة علنًا بإنهاء العبودية.

حرَّر كتابًا بعنوان “نداء إلى المواطنين الملونين في العالم” في سبتمبر من عام 1829م، والذي ندَّد فيه بالعبودية والعنصرية في أمريكا، وهاجم المنهج الأمريكي والجمهورية والنظام الاقتصادي الغربي. فكان لندائه تأثيرٌ كبيرٌ على النضال الذي استمر من أجل المساواة في الحقوق والعدالة العِرْقِيّة داخل الولايات المتحدة، مما دفَع دعاة إلغاء العبودية الآخرين ليكونوا أكثر جرأةً ونشاطًا في تفكيرهم وأفعالهم. وعلى مرّ السنين، ألهمت أفكارُه أجيالًا عديدة من القادة والنشطاء السود من جميع الخلفيات.

أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية:

وُلِدَ “ديفيد ووكر” حرًّا في “ويلمنجتون” Wilmington، وهو ميناء صغير في منطقة “كيب فير” Cape Fear بولاية “كارولينا الشمالية” North Carolina في عام (أو حوالي) 1797م (تاريخ ميلاده الدقيق محلّ خلاف).

كانت والدته حُرَّة، وكان والده عبدًا، ووفقًا لقوانين ذلك الوقت في ولاية “كارولينا الشمالية”، وفي معظم الولايات الجنوبية الأخرى، فإن الطفل المولود لأُم حُرَّة، بغضّ النظر عما إذا كان الأب مستعبَدًا، يكون الابن حُرًّا من الناحية القانونية.

انتقل “ووكر” إلى “تشارلستون” Charleston، بـ”كارولينا الجنوبية” South Carolina عندما كان شابًّا؛ فقد كان مكانًا مناسبًا نظرًا لتوفُّر المزيد من فرص العمل للسود وبناء حياة أفضل. وفي “تشارلستون” انضمَّ إلى “الكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية” African Methodist Episcopal Church (AME) التي كان لديها مجتمع قويّ من النشطاء، فقد كانت الكنائس السوداء المستقلة لديها مراكز للدعم المتبادل من أجل مقاومة العبودية. ويُعتقد أن يكون “ووكر” قد شارك -وربما كان له دور- في مؤامرة فاشلة قادها زميله عضو الكنيسة “دنمارك فيسي” Denmark Vesey، والذي دعا إلى تمرُّد العبيد في “تشارلستون” في عام 1822م.

لم تكن معرفة “ووكر” بالظروف القاسية والقمعية للعبودية مقتصرة على ولايتي “كارولينا” الشمالية والجنوبية فقط؛ فبحسب روايته الخاصة سافَر على نطاق واسع إلى الجنوب والغرب قبل أن يعود شرقًا إلى “فيلادلفيا” Philadelphia؛ فقد كانت المدينة موطنًا للعديد من السود الأحرار والعبيد الهاربين. كانت أيضًا قاعدة للكنيسة الأسقفية AME وقائدها الأسقف “ريتشارد ألين” Richard Allen، وهو رجلٌ أُعْجِبَ به “ووكر” كثيرًا.

وبحلول عام 1825م، استقرَّ “ووكر” في “بوسطن”، وكان نَشِطًا داخل مجتمع السود الصغير على الجزء الخلفي من “بيكون هيل” Beacon Hill في وسط المدينة، فقد كان يعمل كتاجر ملابس مستعملة، ويدير متجرًا بالقرب من أرصفة “نورث إند” North End.

انضمَّ إلى “أخوية ماسونية” Prince Hall Masons في عام 1826م، مما جعله على اتصال بالأعضاء البارزين في مجتمع السود في “بوسطن”، وهو ما أتاح له الوصول إلى وسائل الإعلام كوسيلة لنقل ونشر أفكاره حول ظروف السود في الولايات المتحدة في ذلك الوقت. بدأ في نشر بعض من “نداءاته” وبعض من مقالات الرأي في مجلة “الحرية” Freedom’s Journal، بالإضافة إلى الخطب التي ألقاها في “جمعية ماساتشوستس العامة للملونين” Massachusetts General Colored Association (MGCA)، حيث كان عضوًا فيها.

في هذه الظروف صقل “ووكر” من إيمانه بالمساواة بين جميع الأمريكيين، وكذلك رغبته في الحاجة إلى تحسين الإدراك الذاتي بين المنحدرين من أصلٍ إفريقي.

وتُوُفِّي “ووكر” في 6 أغسطس 1830م، ولا يزال سبب وفاته لغزًا لم يتم حلّه، ويزعم البعض أنه تعرّض للمطاردة وقُتِلَ على يد صائدي الجوائز في “جورجيا”. تم العثور على “ووكر ميتًا”، مما دفع بعض الناس للاعتقاد بأنه واجَه نهايةً عنيفةً.

ثانيًا: السياق التاريخي والسياسي في القرن التاسع عشر:

في وقت مبكّر من تاريخ الولايات المتحدة، أصبح الاهتمام العملي بكيفية إجراء تغييرات بنَّاءة في ظل الظروف التي يعاني منها المنحدرون من أصل إفريقي أولوية مُلِحَّة للعديد من أعضاء العِرْق، فقد أدَّت الحاجة المُلِحَّة لإجراء تغيير حقيقيّ في حياة الأشخاص الملونين إلى قيام العديد من الكُتَّاب بتوجيه انتقادات لاذعة للتسلسل الهرمي للعِرْق، وللطبقة الأمريكية التي تركت الملونين في أسفل كل فئة من هذه الفئات، وجعلتهم غير قادرين على التغلُّب على وصمة العار التي رافقت مواقفهم.

شارك بعض الكُتَّاب من أصول إفريقية في هذا المشروع، وساعدوا بالفعل في إنشاء أيديولوجية ومنهجية من شأنها أن تمنح الأشخاص الملونين مكانة لإحداث تغيير في الظروف الاجتماعية والسياسية والمادية، والتي كانت تعاني منها شعوبهم، عُرِفَتْ هذه الأيديولوجية في تاريخ الفكر السياسي بـ”الارتقاء العِرْقِيّ”، وتعود جذور “الارتقاء العِرْقِيّ” إلى أوائل القرن الثامن عشر، عندما بدأ الكُتَّاب الملونون لأول مرة في تحدّي “التسلسل الهرمي العِرْقِيّ” الذي نشأ في أمريكا، وقاموا بتشجيع شعوبهم على الإصرار على أنَّ إنسانيتهم ​​ضَمِنَتْ لهم الحقوق التي وعد بها الأمريكيون البيض بعد الثورة.

فقد كان الهدف من هذه المبادرات هو تحسين الظروف لجميع الأشخاص الملونين، وبالرغم من ذلك، ففي النصف الأخير من القرن التاسع عشر، كان غالبًا ما يتعارض واقع هذه الجهود مع أهدافها المثالية؛ فقد كان من المأمول أن يؤثر “الارتقاء” كما تم تصوُّره على نطاق واسع في إحداث تأثير على ظروف جميع أفراد العِرْق، بغضّ النظر عن الظروف الفردية. ومع ذلك كان لهذه الجهود في كثير من الأحيان تأثيرٌ في تعزيز الانقسامات داخل العِرْق، وخَلْق طبقة النخبة التي تمَّ تقديمها كدليل على تقدُّم العِرْق.

ويُمَثِّل الكُتَّاب الأمريكيون من أصل إفريقي “ديفيد ووكر”، والذي يُعتبَر “نداؤه” بدايةً لممارسة “الارتقاء العِرْقِيّ” الذي يعطي قيمة لجميع أفراد العِرْق، وليس فقط أولئك الذين يُميّزهم وضعهم المالي أو الاجتماعي على أنهم من النخبة. فعلى الرغم من أنه لم يتمَّ تحديد هويتهم بهذه الطريقة بعدُ، فإنَّ “ووكر” يُعَدّ من أوائل الكُتَّاب الذين طالبوا بـ”النهوض والارتقاء العِرْقِيّ” في الولايات المتحدة.

ثالثًا: إسهامات “ديفيد ووكر” الفكرية:

كتاب “نداء ووكر” Appeal to the Coloured Citizens of the World كما يوحي عنوانه، كان “نداءً” إلى “المواطنين الملونين في العالم، وبشكلٍ خاصّ إلى مواطني الولايات المتحدة الأمريكية”، وهو ما يُبْرِز بشكل خاصّ التوجُّه القوميّ في فِكْرِه، حيث تركَّزت مقالاته الأربع على إشكاليات المجتمع الأسود وقتها؛ حيث “العبودية”، و”الجهل، و”المسيحية المنحرفة”، و”هجرة السود” بوصفها أسباب أدَّت بدورها إلى بُؤْس السود. وفيما يلي تحليل موجز لما احتوى “نداؤه” من أفكار، والذي أحدث زوبعة من الاضطراب وقتها في شمال وجنوب خط “ماسون ديكسون” Mason Dixon Line:

1- المطالبة بإلغاء العبودية:

عندما كان شابًّا؛ لم يختبر “ووكر” وحشية العبودية، ومع ذلك فقد كان يكره مؤسسة العبودية أيَّما كُرْهٍ، وعبَّر عن ذلك في بداية شبابه بأنه: “إذا بقيتُ في هذه الأرض الدامية، فلن أعيش طويلاً”، وأنه: “طالما كانت هناك عدالة إلهية، فسوف يأتي الوقت الذي أنتقم فيه للحزن الذي عانَى منه قومي من السُّود”، فقد اعتبر “ووكر” أن الجنوب “ليس المكان المناسب لإقامته”، وأنه “يتوجب عليه مغادرة هذا الجزء من البلاد”، وأن الخروج سيكون بمثابة “تجربة عظيمة بالنسبة له”، وفرصة “لكي يعيش على أرضٍ يعيش عليها الكثير من الأحرار؛ فقد بات من المؤكَّد بالنسبة له “أنه لن يستطيع أن يبقى وأصوات القيود تطرق باستمرار مسامعه”، فهو “لم يَعُدْ يصبر على مواجهة إهانات المنافقين من العبيد، فما كان له إلا أن يرحل”.

وفي عام 1828م، انضمَّ “ووكر” إلى “جمعية ماساتشوستس العامة للملونين” Massachusetts General Colored Association (MGCA). ووفقًا للبروفيسور “هينكس” Peter Hinks؛ فقد “كانت أهمية هذه الجمعية تكمن في ترويجها العدائي للعبودية بشكل عام، والمطالبة بإلغاء العبودية على وجه الخصوص، وكذلك كان من بين أهدافها النهوض الفكري والأخلاقي للسود، وتعزيز الوحدة فيما بينهم في جميع أنحاء الأمة”.

وعبَّر “ووكر” في “ندائه” عن الغرض من انضمامه إلى الجمعية؛ من خلال خطاب موجَّه لأعضائها بـ”أن الهدف الأساسي لهذه المؤسسة هو توحيد السكان الملونين، داخل الولايات المتحدة في الوقت الحاضر قدر المستطاع عمليًّا وبشكل مناسب، وتشكيل التجمُّعات، وفتح وتوسيع ومتابعة المراسلات، وإزالة العوائق أمام أيّ محاولة تسعى إلى تحسين حالة السود البائسة”، فقد كانت الوحدة في مواجهة العنصرية هي إحدى اهتمامات “ووكر” الأساسية في “ندائه”. كما جادل البروفيسور “هينكس” بأن “الجمعية كانت التجسيد الأكثر تقدمًا وتنظيمًا على المستوى الوطني”.

وقد كانت استجابة “ووكر” للمخاوف بشأن ما يتهدّده مِن قِبَل مؤسَّسة العبودية في الجنوب، وردّه على النداءات العديدة التي طالبته بالفرار إلى كندا، بأنه “يجب أن يموت شخصٌ ما في وقت ما من أجل هذه القضية”، وبالفعل مات “ووكر” في ظروف غامضة أثناء سيره نحو باب منزله، وهو ما فتح الباب لادِّعاء البعض بأنه “مات مسمومًا”.

توقف “ووكر” في “ندائه” كثيرًا عند “ملاحظات توماس جيفرسون” Thomas Jefferson، والتي فسّرها “ووكر” على أنها “وضعت السود جنبًا إلى جنبٍ مع الحيوانات”، وتحدَّى المسيحيين الأمريكيين “بأن يأتوا بصفحة واحدة من صفحات التاريخ”، سواء كانت “مقدَّسة أو مدنَّسة”، تحوي خبرًا يقول: “إن المصريين كانوا يمتهنون بني إسرائيل أو أبناءهم، أو يدّعون بأنهم لم يكونوا يومًا ضمن العائلة البشرية”، وتساءل: “هل يمكن للبيض إنكار هذه التهمة؟ فبعد أن نقلونا إلى هذه الحالة المؤسفة بوصفنا “عبيدًا تحت أقدامهم”، قاموا بعد ذلك بالادعاء زورًا بأننا منحدرون في الأصل من قبائل القرود أو الشمبانزي”.

وعلى الرغم من قتامة المشهد في ظل العبودية، تخيل “ووكر” أن “هناك مستقبلًا ثانيًا محتملاً، هذا المستقبل الذي سيعيش فيه الأسود مع الأبيض داخل أمريكا جنبًا إلى جنب”؛ ويعبّر عن ذلك بقوله: “أنا أتحدث إلى كل أمريكيّ أبيض بدافع الحرص على مصلحته؛ هذه المصلحة التي تفترض أن يتمتع الجميع بالحرية”، وخاطب البيض بأن “تخلَّصوا من مخاوفكم وتحيزاتكم، وعَامِلُونا مثل الرجال، وسنحبّكم أكثر مما نكرهكم الآن”، وقتها فقط “سينعم الجميع بالسلام والسعادة معًا”.

وتجدر الإشارة إلى أن “ووكر” كان يؤمن بأن “تحرير السود أمرٌ لا مفرَّ منه، بغضّ النظر عن الخيارات التي يتَّخذها الأمريكيون البيض، ففي النهاية “يجب أن يكون السود أحرارًا، فالأمر لا يخضع لرغبة البيض”.

وتضمَّنت مناقشة “ووكر” للعبودية الرومانية، سعيه لإثبات أن استعباد قومه من السود كان الأسوأ على مرّ التاريخ، وجاء ردًّا على دفاع “توماس جيفرسون” عن العبودية الأمريكية؛ فقد صرح “جيفرسون” بأن “حال عبيد الرومان كان أسوأ بكثير من حالة السود في قارة أمريكا”، وأضاف بأن “العبيد الرومان تم إعدامهم بعد قتلهم لسيدهم على عكس العبودية الأمريكية”.

وردًّا على “جفرسون” قام “ووكر” بتفنيد هذه الادعاءات بقوله “بأن الموت كان أفضل من العبودية الأمريكية التي تصف ظروف العبودية الرومانية بأنها “أفضل” مقارنة بالأولى”، كما حثَّ “ووكر” السود خلال “ندائه” على “اختيار الموت بدلاً عن قبول العبودية”، وأنهم “لو اختاروا العبودية، فسوف يحكمون على أبنائهم وأبناء أبنائهم باللعنات”.

وعلى عكس العبودية الأمريكية؛ ذكر “ووكر” أن العبودية الرومانية سمحت للعبيد بشراء حُرّيتهم، كما سمحت للعَبْد المُعْتَق بشغل المناصب السياسية كذلك، واستطرد قائلًا: “لو خيّروني بين الموت أو أن أكون عبدًا لأي طاغية، فالموت أو الإعدام أشرف لي”. وإن “مَن قرأ التاريخ سيعلم بأنه بمجرد العبد في زمن الرومان بمجرد حصوله على حريته، بإمكانه أن يرتقي إلى أعلى المناصب داخل الدولة، فلم يكن هناك قانون يمنع العبد من شراء حريته”. وتساءل: “ألم يضع الأمريكيون قوانين تمنعنا من الحصول على حريتنا أو تولّي أيّ مناصب؟ اقرؤوا قوانين فيرجينيا، ونورث كارولينا”.

2- الماسونية Freemasonry

حينما غادر “ووكر” الجنوب، وهو الذي وُلِدَ حُرًّا وعاش حُرًّا، نشط في المهرجانات التي أُقِيمَتْ في “ماساتشوستس”، والتي كانت تحتفل بنهاية تجارة الرقيق في شمال المحيط الأطلسي و”استقلال هايتي”، ذهب وانضم إلى “البيت الماسوني الإفريقي الأمريكي” African-American Masonic Lodge الذي أسَّسه “برنس هول” Prince Hall الأمريكي من أصل إفريقي. هذا “البيت” الذي كان له دورٌ مهمّ في المعارك المبكرة داخل أمريكا ضد العبودية وتجارة الرقيق والقمع العنصري؛ حيث شدَّد على المطالبة بتعليم السود، وقدَّم التماسًا إلى “الهيئة التشريعية في ماساتشوستس” في عام 1787م مطالبًا ببرامج جدية من أجل تعليم السود.

وأضاف البروفيسور “داريل سكريفن” Darryl Scriven عن عضوية “ووكر” قائلاً: “لم تُسهّل هذه المنظمة دخوله النخبة السوداء داخل مجتمع بوسطن الأسود فحسب، بل أتاحت له أيضًا الوصول إلى شبكة من المواطنين السود الذين عملوا بشكل سِرّيّ، وربما كانوا مساهمين في العديد من مخططات التحرُّر”، وأنها هي أيضًا التي “ساعدت ووكر في تمويل أول صحيفة أمريكية من أصل إفريقي”، وهي “صحيفة الحرية” Freedom’s Journal”، ليصبح مُحرِّرًا بها كذلك. “فقد كانت الصحيفة بمثابة منتدًى لتبادل الأفكار بين أعضاء الطبقة الوسطى من السود الأحرار”، هذه المشاركات الصحفية ساعدت “ووكر” في “صياغته للكثير من أفكاره التي برزت في مناشداته” فيما بعدُ.

3- الإثيوبيانية والدين

كان “ووكر” عضوًا في “الكنيسة الميثودية” Methodist church لـ”صمويل سنودن” Samuel Snowden أشد المطالبين بإلغاء العبودية، فقد كان بدوره صديقًا لـ”وليام لويد جاريسون” William Lloyd Garrison. ووفقًا للبروفيسور “هينكس” Peter Hinks فإن “الكنيسة الميثودية وسنودن كانا لهما الأثر الأكبر في حياة وفكر ووكر”، فقد ساهما بشكل واضح في خطابات “ووكر” وأدبياته، كما سمحت عضويته بالكنيسة الميثودية بأن يكون على اتصال بأعضاء بارزين داخل المجتمع الأمريكي، ومنَحَه ذلك إمكانية أفضل لتوسيع شبكة اتصالاته في الجنوب؛ حيث توجد العديد من الكنائس”.

وتضمَّنت شبكة الاتصالات هذه أيضًا العديد من البحَّارة الذين كانوا يترددون على متجر الملابس الذي كان يملكه “ووكر”، مما سمح له بنقل “ندائه” إلى الجنوب بشكل أسرع؛ فقد كان العديد من الأمريكيين من الأفارقة الأحرار يعملون بحَّارة، في الوقت الذي كان فيه البيض يتجنّبون هذا العمل الشاقّ، بينما كان الأمريكيون الأفارقة يتحصلون على أجور منخفضة.

تحدَّى “ووكر” بشكل مباشر المؤسسات الأمريكية بإعلانه أن “أوضاع شعبه كانت أسوأ من أيّ شعب آخر في أيّ بلد آخر على مرّ العصور، وأوضح أنَّ “شعبه كان أكثر الكائنات بؤسًا وانحطاطًا وذُلًّا على الإطلاق منذ بدء الخليقة، وحتى يومنا هذا”، وأن “المسيحيين البيض في أمريكا أو الذين يتظاهرون بالمسيحية، هم أنفسهم من يسعون لاستمرار العبودية، فقد كانوا يعاملون السود بقسوة شديدة وبربرية أكبر بمراحل مما قامت به أيّ أمة وثنية أخرى عبر التاريخ”.

دفَعه اعتقاده بأن “السود هم الأكثر بؤسًا في العالم، لدعوتهم إلى ضرورة السعي نحو تحسين ظروفهم على الأرض بدلاً من انتظار تدخل العناية الإلهية”، وهو ما عبَّر عنه: “بأن يوم فدائنا من البؤس المدقع أراه يقترب، ولن نتمكن من ذلك إلا إذا -بالمعنى التوراتي للكلمة- مددنا أيدينا إلى الرب إلهنا؛ فنحن على يقين من أنه لن يأخذ الله بنواصينا ضدّ إرادتنا ورغبتنا، وينتشلنا من حالتنا الدنيئة والضعيفة والبائسة، إلا إذا أبدينا استعدادنا لكي يفعل الله هذه الأشياء من أجلنا”.

وأجرى “ووكر” مقارنات بين العبودية الأمريكية وأشكال الرق الأخرى في الماضي، بما في ذلك “الهيلوتس” Helots في “سبارتا” Sparta، وبني إسرائيل في مصر، والعبودية الرومانية، فخلص إلى أن “بني إسرائيل في مصر، والهيلوتس في سبارتا، والعبيد في عهد الرومان، كانوا يعانون من العبودية تحت أمم وثنية، وبالرغم من ذلك كانت معاناتهم غيضًا من فيض بالمقارنة بمعاناة السود في ظل أمة مستنيرة ومسيحية، فلا وجه للمقارنة على الإطلاق بينهما سوى في الاسم والشكل فقط”.

وذهب “ووكر” إلى أبعد من ذلك حين تحدَّث عن الحراك السياسي والحماية والمساواة، و”التي كانت مشروعة لبني إسرائيل في ظل العبودية”؛ حيث “إن فرعون أطلق يد يوسف على خزائن مصر”، وسمح لـ”بني إسرائيل بتملك الأراضي والزواج من المصرين”، وتساءل “ووكر” عن “الضمير الأمريكي الذي امتنع عن التصريح أو البوح بمعاناة السود”، وأطلق نداءه: “أيها الأمريكيون؛ هل رأيتم يومًا شخصًا ملونًا يشغل منصب رئيس، أو حاكم، أو مشرّع، أو عضو مجلس شيوخ، أو رئيس بلدية، أو محامٍ في نقابة المحامين، أو شرطيّ، أو شخص يجلس في أحد مقاعد المحلّفين، ولو حتى في قضية أحد إخوانه البؤساء، في جميع أنحاء هذه الجمهورية العظيمة؟!”، واشتكى أيضًا من عدم قدرة السود على امتلاك الأراضي، أو الزواج من البيض على عكس اليهود المستعبدين.

كما دعا “ووكر” إلى استخدام الدين من أجل توحيد السود وإلهامهم، ومع ذلك كان عليه أن يُقدِّم تفسيرًا منطقيًّا لماذا كان “المسيحيون هم الجناة في اضطهاد شعبه”، فكان تفسير “ووكر” أن مضطهدي شعبه “كانوا يتظاهرون بالمسيحية”، وفي نفس الوقت دافع عن “المسيحية بوصفها دينًا”، وهاجم ما سماه بـ”المسيحية الأوروبية والأمريكية خلال ندائه”، وادعى أن “أوروبا قد أفسدت المسيحية التي شقَّت طريقها في النهاية إلى أمريكا”، وبأن “الطريقة التي تمَّ بها إدارة الدِّين مِن قِبَل الأوروبيين وأحفادهم، كانت بمثابة خُطَّة مُلَفَّقَة مِن قِبَل أنفسهم والشياطين لقَمْع السود”.

وعارض “ووكر” بشدة “القيود المفروضة على تعليم المسيحية للعبيد”، وأجرى مقارنات بين “التبشير للأديان التي يمارسها الوثنيون، واليهود، والمسلمون، والمسيحيون الأمريكيون؛ “ففي الوقت الذي يحاول فيه اليهود والمسلمون أن يقوموا بدعوة جميع البشر على حدّ سواء، وأيًّا كان البشر الذين يدينون باليهودية أو الإسلام، فإنهم يقومون بتقديم كافة الحماية لهم، على العكس تمامًا من ذلك كان المسيحيون الأمريكيون؛ لا يعيقون فقط رفقائهم من الأمريكيين الأفارقة عن معرفة الدين، ولكن الآلاف منهم كانوا يقومون بالاعتداء على شخصٍ ملون حتى الموت إذا تم ضبطه متضرعًا لربّه داخل إحدى الكنائس”.

كما أدان “ووكر” النفاق المتمثل في “منع المسيحيين الأمريكيين لشعبه من تعلُّم الكتاب المقدّس، في حين ذهبوا للتبشير به خارج أمريكا”، وعبَّر عن ذلك بأنه “قد تمَّ ترسيم القساوسة الأمريكيون كمبشّرين من أجل دعوة الوثنيين إلى المسيحية، بينما يبقوننا وأطفالنا غارقين تحت أقدامهم في أبشع جهل وبؤس عانى منه أيّ شعب منذ بداية الخليقة”.

كما أدلى “ووكر” بتصريح مثير للجدل مفاده بأن “السود سوف ينصرون المسيحية ويبشّرون بها بدلاً عن البيض”، وزعم “ووكر” أن “فشل الأمريكيين البيض في التبشير بالمسيحية، يرجع إلى أن الله لم يكن يسمح لهم بالنجاح حتى يقوموا بإنصاف شعبه من السود”، وهو ما يُبرز أن شكوى “ووكر” السابقة كانت بمثابة “تأكيد على أن المسيحيين الأمريكيين ينتهكون الكتاب المقدَّس من خلال مَنْع شعبه من تعلُّم كلمة الله، بناءً على التمييز العنصري واللوني، وبالتالي فهم يتظاهرون بالمسيحية”، وتساءل: “كيف يمكن للدعاة والناس داخل أمريكا تصديق الكتاب المقدّس؟ وهل تستقيم تعاليمه والتمييز حسب اللون داخل أمريكا؟”.

وطالب “ووكر” السود ببذل المزيد من “مقاومة اضطهاد البيض، وطالبهم بالعمل من أجل تنوير وتحرير إخوانهم السود”، ووعدهم بأن “الله سيكون إلى جانبهم في كفاحهم من أجل الحرية”. ومع ذلك على عكس معظم الأدبيات الأمريكية، رفض “ووكر” منح الأمة الأمريكية صفة الخدمة الإلهية، سواء في الماضي أو الحاضر أو ​​المستقبل. وعبَّر عن ذلك بأن “مالكي العبيد البيض تناسوا أن لله جنودًا في السموات وفي الأرض”، وأنه “يستمع جيدًا وباستمرار لصرخات وأنَّات ودموع وآهات شعبه المظلوم”، وأن “عقابه سيكون رادعًا للظالمين الطامعين”، وهكذا استمر “ووكر” في تصوير الأمة الأمريكية البيضاء على أنها “قوة قمعية تتعارض أفعالها مع التدبير الإلهي عبر التاريخ”، وهو “ما يستوجب معاقبتها قريبًا على خطاياها ما لم تغيّر سلوكها على الفور وبشكل دراماتيكي”.

4- العنف والقوة

أثناء نشأته، شهد “ووكر” قسوة البيض تجاه ذوي البشرة الداكنة؛ فغالبًا ما كان مالكو العبيد في منطقة “ويلمنجتون” يمارسون أكثر الأساليب قسوةً على العبيد الهاربين والمتمردين: “فبعد أَسْرهم يتمّ إعدامهم ووضع رؤوسهم المقطوعة على أعمدة طويلة مقابل أرصفة المدينة الرئيسية”. لذا سعى “ووكر” من خلال ندائه إلى القضاء على “اللامبالاة والجهل” بين أفراد قوميته، فقد كانت أكبر مشكلة تناولها “ووكر” هي نفسية الفرد؛ و”كيفية انتشال هذه النفسية من براثن التشويش واختلال الفهم، وتفسير مفارقة العجز وسط القوة، وبأنه يجب إدراك القوة من أجل السعي وراء الحرية والسلطة التي تم حرمان السود منها”.

فلم تكن أهداف “ووكر” الرئيسية في “ندائه” مجرد العنف، بل كان هدفه الحقيقي هو مهاجمة “جهل ولامبالاة شعبه”. فقد صرَّح “ووكر” بأنه “يرفض كل الاتهامات التي وُجِّهَتْ إليه”، وأن هدفه الرئيسي من “ندائه” هو “أن يُوقِظ في صدور إخوانه المنكوبين والمنحطّين والنائمين روح التحقيق والاستقصاء لحقيقة مآسيهم وبُؤسهم في هذه الجمهورية التي تَدَّعي أنها أرض الحرية”.

وخلال “ندائه” كان يشكو من “خيانة شعبه لبعضهم البعض، وأرجع ذلك إلى “الجهل”، الذي اعتبره نتيجة طبيعية للخضوع والمذلة والخنوع لسوط وجلد الطغاة”. فلم يكن “نداؤه” موجهًا نحو العبيد فحسب، بل كان موجهًا بشكل خاص للسود الأحرار أو الطبقة الوسطى من المجتمع الأسود الذين يتمتعون بمزيد من الحرية لفهم أفكاره وتوزيعها. فقد كان “ووكر” أكثر قلقًا من خيانة هذه الفئة؛ حيث كان يرى أن هذا هو الفصيل الذي يمكن أن يعتمد عليه من أجل نجاح نواياه، وقد بذل قصارى جهده لإقناعهم بضرورة التعاون مع جهوده.

لا أحد يستطيع أن ينكر أن “نداء ووكر” خلَق شعورًا بعدم الارتياح عندما وجد طريقه إلى الولايات الجنوبية، هذا القلق يطرح سؤالًا عما كان يحمله “النداء” من خطورة على الجنوب، فقد كان “النداء” يحتوي على بعض المقاطع التي يبدو أنها تدعو إلى العنف ضد مالكي العبيد، وهو ما قد يتسبّب في تعرُّض حياتهم للخطر؛ وبخاصة أنه وصف المسيحيين الأمريكيين البيض بأنهم “أعداء تقليديون للسود”، وذكَر على وجه التحديد أنه “يعتقد أن على السود الردّ بالعنف عندما يتعرَّضون للتهديد بالعنف”.

5- التعليم وتطوير الذات

حظي التعليم بأهمية كبيرة للغاية في “نداء ووكر”، فقد ركزت إضافاته في الإصدار الثاني للرد على الأساطير الخاطئة التي قام البيض بنشرها حول السود، مثل “عدم القدرة على التعلم”، في الوقت الذي كان “البيض يمنعون السود من التعلم بالقوة”، وهو ما عبَّر عن التناقض الواضح للبيض. فقد كان يرى أن “البيض قاموا بمنع شعبه من الحصول على تعليم عادل مع البيض”؛ ذلك لأن التعليم من وجهة نظره “هو الوسيلة الوحيدة القادرة على رفع درجة الوعي لدى السود، ودفعهم للمطالبة بتحسين ظروف العبودية”، كما أنها “ستُلْهِم شعبه شعورًا بالفخر ورفضًا للاضطهاد”.

كما كان يعتقد أن “تقييد البيض للتعليم الديني والعلماني لشعبه كان السبب الرئيسي للامبالاة والجهل لدى السود”، فقد كان “يهدف البيض من ذلك أن يكون العبيد أفضل وأكثر طاعةً”، وبهذه الوسائل “تقوي أيدي البيض كأعداء طبيعيين للسود، وليربطوا سلاسل العبودية حول أعناقهم وأعناق أبنائهم”.

واستشهد بجزء من خطاب “إلياس كالدويل” Elias B. Caldwell، من مقاطعة كولومبيا، من خطابٍ ألقاه عن السود الأمريكيين المستعبدين، بأنه: “كلما قمت بتحسين حالة هؤلاء الأشخاص، كلما قمت بتنمية عقولهم، وحينما تجعلهم أكثر بؤسًا، فأنت تمنحهم مزيدًا من اللامبالاة”.

6- الوحدة والقومية والهجرة

كان “ووكر” سابقًا لمرحلته التاريخية حينما دعا إلى الوحدة بين السود؛ وأوضح أن “الهدف الأساسي لمناهضة العبودية، هو توحيد الملونين في الوقت الحالي، على الأقل داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ليتخذ شكلًا عمليًّا ومناسبًا، كان يجب تكوين مجتمعات، وفتح، وتوسيع، ومواكبة المراسلات بين جميع الملونين”، ولكي يُبرهن على أن الوحدة باتت ممكنة وبالإمكان تحقيقها، قام “ووكر” باستدعاء الماضي الإفريقي بوصفه إنجازًا تاريخيًّا لشعبه من السود، “كان استدعاءه بغرض إشعال جذوة الفخر بين شعبه تجاه ماضيهم المجيد، وأكَّد تحديدًا على أن الإنجازات التي حققتها الوحدة في تاريخ أسلافه”، فاختار رمزية “هنيبال” Hannibal البطل العسكري ممثلًا عن “شعبه الإفريقي”، الذي كاد “أن يهزم أسلاف مضطهديهم على أبواب روما، ولكنَّه فشل بسبب الانقسام”.

فالانقسام من وجهة نظر “ووكر” كان السبب الرئيسي و”المحدد لهزيمة أسلافه، وما ترتب عليه من استعباد في ذلك الوقت وحتى الآن”، وأخذ “ووكر” يسترجع “تاريخ إفريقيا في الفنون والعلوم”، فتحدث عن “الأهرامات، وغيرها من المباني الرائعة، والحضارات التي قامت على ضفاف نهر النيل، مِن قِبَل أبناء إفريقيا أو حام”، وأشاد “بالتعليم الذي رافق هذه الحضارة، وانتقل من هناك إلى اليونان؛ حيث تم تحسينه وصقله، ومِن ثَمَّ نقله إلى الرومان، وإلى جميع أنحاء العالم المستنير آنذاك”، هذه العلوم التي “أنارت العقول وأزاحت ظلمة الجهل منذ ذلك الحين، وحتى يومنا هذا”. وواصل “ووكر” الحديث عن أسلافه من الأفارقة، الذين وصفهم بالعظماء، وبأنه يشعر بالبهجة كلما تذكَّر أن هؤلاء هم أسلافه. وتنبَّأ “ووكر” بأن الله سيعطي شعبه “هانيبال” آخر، وطالب شعبه بالالتفاف حوله ودعمه.

كان “ووكر” أيضًا أحد الداعين الرئيسيين للقومية السوداء داخل أمريكا؛ “هذه القومية السوداء من حيث إنها تعني وحدة كل الأمريكيين من أصل إفريقي واعتبارهم شعبًا متميزًا”، ومع ذلك دعا إلى اندماج السود والبيض بوصفهم مواطنين أمريكيين بدلاً من “استعمارهم” في إفريقيا. وعزَّز “ووكر” هذا الشكل الجديد من القومية من خلال مهاجمة العمل الخيري الزائف لـ”جمعية الاستعمار الأمريكية” American Colonization Society؛ حيث كانت الجمعية مؤسسة تقوم على نقل السود الأحرار من أمريكا إلى إفريقيا.

كان للقس “ريتشارد ألين” Richard Allen، مؤسس أول كنيسة أمريكية من أصل إفريقي تأثير كبير في موقف “ووكر” ضد خطة الجمعية وموقفه من القومية السوداء، فقد اشتكى الأسقف “ألين” في رسالة إلى مجلة “الحرية” Freedom في إشارة إلى خطة الاستعمار، ومشيرًا إلى “التناقض بين هجرة شعبة من أجل تنصير الناس في إفريقيا، بينما لا يُسمح لهم بتعليم وتعلُّم كلمة الله في أمريكا، فكيف يمكن لشعبه تعليم الأفارقة بينما لم يتم السماح لهم بتعليم أنفسهم داخل أمريكا، هذه الأرض التي سقيناها بدموعنا”.

وصرَّح “ووكر” بأنَّ النية الحقيقية لـ”جمعية الاستعمار الأمريكية” كانت “إزالة السكان السود الأحرار بعيدًا؛ بهدف منع تواصلهم السود الذين مازالوا تحت نَيْر العبودية”؛ وأوضح أن “الثروات والفرص التي يبحث عنها السود كانت موجودة في أمريكا وليست في إفريقيا”، وأن “خدمات شعبه في بناء هذه الأمة كفيلة بإضفاء الشرعية اللازمة لإقامة السود فيها”.

وكانت إحدى مساهمات “ووكر” الرئيسية في تاريخ الأمريكيين من أصل إفريقي هو إقناع شعبه وأنصاره بضرورة إلغاء العبودية، وإقناعهم بأنَّ خُطَط “جمعية الاستعمار الأمريكية” كانت تتعارض مع مصالحهم. واستخدم “ووكر” كلمات عضو بـالجمعية، وهو “جون راندولف” John Randolph من “رونوك” Roanoke، الذي علَّق في خطابٍ له أمام الجمعية، بأنَّ “بقاء السود في أمريكا يهدِّد أمنها القومي”.

وهاجم “ووكر” العمل الخيري لـ”جمعية الاستعمار الأمريكية” مشكِّكًا في نواياها، وهاجم أيضًا نوايا شعبه الذين وافقوا على الترحيل من أمريكا إلى إفريقيا، بقوله: “ما كان يمكن أن يفكِّر إخواننا في الهجرة، وترك بيوتهم وأوطانهم ويذهبوا بعيدًا، ولا أجد ما أستطيع قوله غير أن هذا البلد هو بلدنا بقدر ما هو للبيض، سواء كانوا سيعترفون بذلك الآن أم لا، لكنَّهم سوف يرونه ويصدقون به إذا وجدوا فينا إصرارًا على البقاء”، وهو ما دفع “ووكر” لحثّ شعبه على “البقاء في أمريكا بغضّ النظر عن المآسي والمِحَن”.

وفي نهاية “ندائه”، قدم “ووكر” حلاً من أجل التعايش والاندماج بين السود والبيض: “من أجل تجنُّب التدمير التام للمجتمع الأمريكي”، وحمل “ووكر” مسؤولية خلق هذا التعايش للمسيحيين البيض، وخاطبهم وتوعدهم “بأن غضب الله آتٍ لا محالة”، ولكيلا يحدث ذلك “يجب على البيض في البداية أن يعملوا على رفع السود من حالة المتوحشين إلى حالة الرجال المحترمين، وأن يقدّموا لهم اعترافًا وطنيًّا بالأخطاء التي لحقت بهم”.

7- الارتقاء العِرْقِيّ Racial Uplift

إنَّ اختيار “ووكر” لجمهورٍ أسود؛ يعكس اعتقاده بأن العمل على “النهوض العِرْقِيّ” هو عمل أصحاب الأصول الإفريقية، فلا يمكن لأيّ عرق آخر تحقيق هذا الهدف. فقد كان “ووكر” يعتقد بقوة أن “السود أنفسهم قد شاركوا في إحداث الموقف الذي كانوا فيه، لذا يجب أن يكونوا جزءًا من الحل”. وليصبح هذا الجمهور المحدَّد جزءًا من أيديولوجية الارتقاء؛ فيجب أن “يكون السود مشاركين نشطين في ارتفاعهم وارتقائهم الخاص”.

في ندائه ربط “ووكر” فخر الفرد بنفسه وفخره بأمته، واستخدم مزيجًا من الادعاءات التاريخية بالتفوق العِرْقِيّ، ومناشدة تقدير الذات الفردية للتأثير في تغيير عقلية المنحدرين من أصل إفريقي، ومن خلال القيام بذلك رسم “ووكر” بدايات أيديولوجية “الارتقاء العِرْقِيّ”. فقد كان يرى أن السود يستحقون هذا الارتقاء؛ بسبب مساهماتهم القيمة في التاريخ الفكري العالمي، وفي تأسيس الولايات المتحدة. وأسَّس في “ندائه” أيضًا بدايات منهجية جديدة؛ تبدأ بتعلم تقدير الذات والآخرين من نفس العرق، وتنتقل إلى الالتزام بالعمل من أجل أولئك الذين ليسوا في وضعٍ يمكنهم من مساعدة أنفسهم أو رؤية قيمتهم.

ويعتقد “ووكر” أن الخطوة الأولى نحو تأسيس عقلية لفرض تغيير في ظروف السود؛ تكمن في فَهْم المكانة الفريدة التي يتمتعون بها في تاريخ العالم وفي نظر الله، فقد أراد التأكيد على حقيقة أنه “عندما خلق الله السود، جعلهم مميزين ومنحهم خصائص مميزة تجعلهم أشخاصًا أخلاقيين، وقادرين على جعل سلوكهم أكثر نبلاً من الأمريكيين البيض”.

كان يأمل في إقناع جمهوره بأنه “إذا كان الله قد فضَّل شعب إسرائيل، وأخضعهم للاستعباد والانحطاط على أيدي مضطهديهم، فإن السود في الولايات المتحدة يمكنهم أن يتوقعوا، حتى في خِضَمّ اضطهادهم، العودة إلى مكانتهم كمفضَّلين لدى الله”.

بنى “ووكر” الكثير من تفكيره على فكرة أن المنحدرين من أصل إفريقي هم شعب الله المحبوب، ومع ذلك لم يعتمد حصريًّا على الادعاءات الدينية بخيرية السود، لكنَّه قدَّم قضيته باعتماد الحقائق المادية التي رآها من حوله للمطالبة بوضع السود كأشخاص يتصرفون بإنسانية. فلم تكن ادعاءات “ووكر” بالتفوق العِرْقِيّ مبنيةً على الإيمان وحده، “لكنَّه كان يؤمن بأن تعديل السلوك يسبق مراحل الإيمان”.

استمر “ووكر” في الدفاع عن قضية السود باعتبارهم عرقًا متفوقًا؛ وذلك من خلال التأكيد على أن “الأشخاص المنحدرين من أصل إفريقي سيتصرفون بشرف عند منحهم حريتهم، على الرغم من أن مخاوف البيض كانت على العكس ذلك”. وأصر “ووكر” على “أنهم على عكس مضطهديهم، فقد كان لدى السود قلوب متسامحة، وسوف يتصرفون بشكل أكثر تسامحًا عندما يتم تحريرهم”؛ اعتمد “ووكر” في تفسيره على المقارنات التي أجراها مع الجماعات العِرْقِيَّة التاريخية وتلك التي كانت موجودة في عصره، فقد كان يأمل في إثارة الفخر بالعرق الأسود بين شعبه؛ من خلال المطالبة “بمكانة شعب الله المختار”، ومن خلال “إظهار الإحساس بالعلو والارتقاء”؛ فقد حاول “ووكر” إعطاء أفراد جمهوره الأسود كل الأسباب اللازمة للفخر بعرقهم. كان هذا كله ضروريًّا إذا كان المنحدرون من أصل إفريقي يريدون إحداث تغيير في حالتهم؛ فبدون هذه المعتقدات، لن يكون هناك سببٌ للرغبة في مساعدة العِرْق بأكمله.

وشدَّد “ووكر” على أهمية الاعتزاز بعِرْق المرء كخطوة أولى وحيوية نحو تحسين الظروف الاجتماعية والمادية والسياسية لجميع المنحدرين من أصل إفريقيّ. قد تبدو هذه الأهداف متناقضة، لكن “ووكر” لم يراها بهذه الطريقة؛ فقد أكَّد إصرار “ووكر” على قيمة واستحقاق السود ككل، وبالضرورة على العرق كَفِئَة لها أهمية حقيقية.

ومع ذلك فإنَّ الاعتزاز الشخصي بالنفس وبقدرات المرء لا يعتمد على لون البشرة أو مظهرها، بل كان له جذوره في فهم التفرد والأهمية المتأصلة لكل شخص. لذلك دعا “ووكر” إلى استراتيجية أخرى للمساعدة في تغيير الظروف التي عانى منها السود، وحثّهم على “فَهْم وتقدير قيمتهم الخاصة كأفراد وكبشر بغضّ النظر عن العِرْق”. لقد حاول تحقيق هذا الهدف من خلال مناشدة إحساسهم بقيمتهم الذاتية، وتشجيعهم على إدراك “طبيعتهم كبشر لديهم قيمة متأصلة لدى خالقهم من ناحية، ووفقًا لدستور الولايات المتحدة”. وبسبب هذه الحُجَج القوية للاعتقاد بجدارة الفرد، “يُصبح العِرْق مصدر قلق ضئيل؛ لأن علاقته بأيّ فرد لم تؤثّر على أهميته”.

ويعتقد “ووكر” أن المنحدرين من أصل إفريقي “يجب ألا يأملوا في أن يتلقوا يومًا ما معاملة متساوية من المستعبدين والمستغلين السابقين، ولكنْ يحقّ لهم وينبغي أن يتوقعوا هذه المعاملة يومًا ما”. وأراد إقناعهم بأنه “يجب أن يكونوا مستعدين لليوم الذي سيُعَامَلُون فيه على قدم المساواة؛ عندها فقط سيكونون قادرين على العمل معًا لزعزعة قيود العبودية؛ لأن هذا الأمر كان قيدًا جسديًّا مفروضًا عليهم وليس نقصًا عقليًّا يكمن في داخلهم”.

رابعًا: دلالات فكر “ديفيد ووكر”

يوفّر “نداء ووكر” للمواطنين الملونين في العالم (1829م) Appeal to the Coloured Citizens of the World فرصة فريدة للوقوف على تشكُّل أيديولوجية ومنهجية “النهوض العِرْقِيّ” و”القومية السوداء”، والتي ستصبح مقنَّنة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فلم يشرع “ووكر” في كتابة نص تحفيزي عرقيّ حين أراد أن يكتب “نداءه”، فلم تكن نصوص التعصُّب العِرْقِيّ موجودةً بعدُ، ولم تكن هناك أيديولوجية أو منهجية تحدّد الأساس المنطقي لمثل هذا الإجراء أو طريقة لتحسين ظروف أيّ عِرْق غير أبيض.

فقد كتب “ووكر” نصًّا يأمل في أن يقود الأشخاص المنحدرين من أصل إفريقي إلى المطالبة بمعاملة أفضل، وقبول المسؤولية عن محنة الآخرين من عِرْقهم. ومن خلال النص ركَّز “ووكر” على التأكيد بأنَّ الحضارة الإفريقية كانت سابقة لكل الحضارات العالمية؛ وأصبحت هذه النظرة للعالم هي الأساس الذي استندت عليه الأيديولوجية الكامنة وراء جهود التعزيز العِرْقِيّ لديه. كما أنه وضع مخططًا لما يتطلبه الأمر لأجل تحسين ظروف جميع السود، موضحًا لقرائه ما يجب عليهم فِعْله لإحداث تغيير حقيقيّ.

واحتاج “ووكر” إلى إلهام الأفراد السود بشعور من القيمة والفخر بأنفسهم وبالعرق ككل، كان يعتقد أنه بمجرد تحقيق هذا الهدف؛ سيعمل السود بشكلٍ فرديّ وجماعيّ لمساعدة بعضهم البعض على تحقيق الأهداف التي حدَّدها لشعبه.

في هذه العملية قام بثلاثة أشياء: 1) بدأ في وضع أيديولوجية تشرح الحاجة والأساس المنطقي لنوع العمل الذي يريد القيام به؛ 2) أظهر من خلال أفعاله (بما في ذلك كتاباته) نوع السلوك الذي يعتقد أنه سيكون ضروريًّا للارتقاء بعِرْقِهِ؛ 3) من خلال هذه الإجراءات بدأ بوضع منهجية لتحقيق أهدافه من أجل تحسين ظروف العِرْق.

وختامًا:

كان “ووكر” مهمومًا بمعاناة شعبه، لكنَّه استخدم هذه المعاناة لزيادة الشعور بالقومية السوداء لدى الملونين داخل أمريكا. كما أنه كرَّس حياته للتنظيم والعمل من أجل تحقيق هدف الوحدة بين شعبه من السود، وتخفيف الظلم الواقع عليهم، وإزالة الجهل واللامبالاة. فكانت قصة حياته فريدة من نوعها، وتستحق أن تكون جزءًا من التاريخ الأمريكي والإفريقي. لقد سعى للارتقاء بشعبه من خلال كشف الحقائق التي غابت عن الكثير منهم؛ وجعلهم يدركون أن ظروفهم كانت أسوأ من أيّ شعب آخر في التاريخ، وكشف لهم عن نفاق المسيحية الأمريكية، وهاجم الجهل وطالب بالتعليم، وبقومية سوداء، ومناهضة الهجرة والاستعمار، وشكَّك في نوايا جمعية الاستعمار الأمريكية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.