“رب .. رب .. رب”، ليس في الأمر عجب!!
كتب: خالد التيجاني النور
.
(1)
لا شئ أكثر مضاضة على المرء من أن تتحقق أسوأ مخاوفه على نحو أسرع وقعاً، وأبعد خطراً من كل توقعاته، إذ لم يكن حتى أكثر الناس تشاؤماً ينتظر أن تنزلق الأوضاع الاقتصادية في السودان بهذه العجلة المتسارعة نحو انهيار وشيك، حقيقة لا مجازاً، على كثرة ما حذّر المشفقون من هذا المصير، والعملة الوطنية تفقد ليس كل يوم، بل كل بضع ساعات، قيمتها على نحو كارثي أمام سلة العملات الحرّة، كما يحدث هذه الأيام والناس بين مصدٌق ومكذب للذي يجري، ثم تعجب ألا أحد من المسؤولين من بين أصحاب القرار يبدو معنياً، ودعك من تلك التبريرات الساذجة والشتائم الغاضبة، من جنس المغالطات التي تحدث في قاع المدينة، لكنها لا تصلح في مخاطبة قضية من صميم ما تعارف عليه الاقتصاديون بالتخصص أو بالممارسة.
(2)
ومن الخفة بمكان تفسير تدهور سعر صرف العملة الوطنية بأنه مجرد ممارسة مرذولة ومعزولة من سياق أداء الاقتصاد الكلي، وأنها نتيجة لمضاربات يقوم بها جشعون أو مخربون لمجرد إزجاء أوقات الفراغ يستحقون عليها صب اللعنات، بل هي مسألة حتمية نتيجة لاختلالات كبيرة في عناصر العلاقات المتحركة في إدارة الطلب الكلي، وكما هو معروف تتكون مؤشرات الاقتصاد الكلي المتغيرة من أربعة عناصر رئيسية، معدلات التضخم، سعر الصرف، عجز الموازنة العامة وموقف الحساب الخارجي “الجاري”، ومعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي.
(3)
ومعلوم بالطبع أن التضخم هو أهم العلل التي تؤدي إلى الاختلالات في الاقتصاد الكلي وبالتالي عدم استقراره، ذلك أن معدلات التضخم العالية تؤثر سلباً على العناصر الأخرى المحرّكة للطلب الكلي، التي أشرنا إليها أنفا مثل سعر الصرف، وعجز الموازنة، والحساب الخارجي، وهذه المعدلات العالية تؤثر بدورها على العرض الكلي، الإنتاج ومعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، ليبدأ الدوران في حلقة مفرغة نتيجة لانعدام التناسق الداخلي بين العناصر المتغيرة ويحدث انفلات في كل مؤشرات الاقتصاد الكلي ليسود عدم الاستقرار ويسري الخلل في مفاصل الاقتصاد الكلي ويتفاقم التدهور في الأوضاع الاقتصادية، وبالضروة الاجتماعية.
(4)
وكما هو معلوم أيضاً يُعزى التصاعد في معدلات التضخم في الغالب إلى زيادة في عرض النقود بما يفوق الزيادة في عرض السلع والخدمات في الاقتصاد، وبما أن التصاعد في معدلات التضخم تعني الزيادة المتكررة والتراكمية في اسعار السلع والخدمات فإنه بالتالي يؤثر سلباً على القدرة التنافسية للصادرات، وبالتالي على الحساب الجاري، ومن خلاله على سعر الصرف. وبما أن الطلب على الواردات الاسترلتيجية غير مرنة في الدول النامية فإن معدلات التضخم لا تؤثر كثيراً على حجم الواردات ، مما يؤدي إلى مزيد من الضغوط على أرصدة الدولة من العملات الأجنبية، وهو ما يؤثر مباشرة على سعر الصرف بكل تبعاته.
(5)
لذلك فإن انهيار سعر الجنيه السوداني المتسارع، الذي فقد ثلاثة أضعاف قيمته في الأشهر الثمانية الماضية، معظمها جرت خلال الثلاثة أشهر الأخيرة، لم يحدث اعتباطاً ولا لأن هناك قصداً إجرامياً بالضرورة ممن يتداولون في النقد الأجنبي ليلاحقوا بإجراءات أمنية، وبالمناسبة تبقى الحكومة والمؤسسات المرتبطة بها هي المتعامل الأكبر بلا منازع في سوق النقد الأجنبي، بل يحدث استجابة لمعيار العرض والطلب، ونتيجة مباشرة للاختلالات الكبرى في مؤشرات الاقتصاد الكلي، لا سيما تصاعد معدلات التضخم التي تحدث بسبب السياسات الحكومية لا غيرها التي توسعت في الإنفاق العام على نحو غير مبرر بمضاعفة صرف موازنة العام الحالي بثلاثة أضعاف سابقتها دون أن تتوفر لها موارد حقيقية ، بما في ذلك الزيادة العشوائية المهولة في المرتبات، والتي كان يرى كل ذي عينين عواقبها التضخمية الكارثية، وكان حتمياً أن تنفلت معدلات التضخم بسبب محاولة سد العجز الضخم بالاستدانة من البنك المركزي وما يستتبعها من إفراط في طباعة النقود.
(6)
ليس فيما أوردناه أنفاً جديداً مما هو معلوم من أبجديات علم الاقتصاد، ولا شك أن من يتولون إدارة الملف الاقتصادي في الحكومة الانتقالية، وبينهم خبراء مختصون وأكاديميون مرموقون، لا تفوت عليهم بالتأكيد مثل هذه البديهيات، فهم مدركون ومحيطون بدقائق النظريات الاقتصادية، إذن ما السبب فيما يحدث؟ فتشّ عن الاقتصاد السياسي لرهانات أصحاب القرار، وهو ما نرجو تناوله في المرة القادمة بإذن الله.