رحيل فتحي هاشم.. أحد سدنة المعرفة في مصر

0 56

كتب: فتحي الضَّو

.

شقَّ عليَّ نبأ رحيله للدار الباقية الذي نقله لي صديقنا المشترك الأستاذ عبد الفتاح الخيَّال، وذلك إثر عِلَّة لم تمهله طويلاً. لم أعلم بذلك وقد كنت قبلها – تزامناً مع مرضه – أحاول الاتصال به بين الفينة والأخرى عبر الهاتف، والذي لم يستجب مراراً وتكراراً، وقد ظننت أن به عطب طارئ كما هي العادة حين يتعذر الاتصال.
الحاج فتحي هاشم كما يطيب لمحبيه وأصدقائه أن يخاطبوه. انشرح قلبي له منذ الوهلة الأولى عندما التقينا نظراً لتطابق اسمينا معاً، ثمَّ جذبتني له بساطته وأريحيته وتواضعه الجم مع كل من يقصد مكتبته، فقد كان يحب الناس ويندر أن تجده يجلس وحيداً في مكتبته (جزيرة الورد) فهو يقضي شطراً من أيام الأسبوع في القاهرة وشطراً آخراً في مدينته المنصورة التي يحبها كذلك.
مما يلفت الانتباه له أن الأصدقاء الذين كانوا يحيطون به كما السوار حول المعصم، كانوا من جنسيات عربية متعددة، القاسم المشترك بينهم الثقافة ونشر الوعي وسُبل المعرفة، وبالطبع لا يخلو الحديث من تبادل هموم السياسة، فبينهم المغضوب عليهم في أوطانهم كما كان الحال مثلي، إلا أنهم وجدوا في القاهرة ملجأً وملاذاً للإقامة فيها.
عرفت الحاج فتحي هاشم قبل أكثر من عقد من الزمان. قادتني له صدفة قدرية كأنها تستجيب للحديث الشريف (الأرواح جنود مُجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف) غير أن الذي دلني عليه في المرة الأولى كان السيد الإمام الصادق المهدي – عليه رحمة الله – في حديث مؤانسة بيننا. قال لي إنه يتعامل معه في طباعة كتبه، ونمت بينهما علاقة إنسانية جميلة كان الحاج فتحي كثير الاعتزاز بها.
كان عندما يفرط في الحديث عنها وعن اعجابه الشديد به أقول له ممازحاً: إن السيد الإمام الصادق المهدي قد جندك لحزب الأمة فنضحك معاً. ويقول لي وماذا عنك أنت؟ فأقول له ذلك لن يحدث معي لسببين بالرغم من أن الإمام صديقي أيضاً. الأول: هو يعلم إنني مستقل لا انتمي إلا لحزب السودان. أما الثاني: لأنني انتقده كثيراً وهو لا يغضب.
عندما التقيت الحاج فتحي للمرة الأولى لطباعة كتابي الرابع (الخندق/ دولة الفساد والاستبداد في السودان) لم يستغرق التداول بيننا زمناً طويلاً. وبعد التوافق قلت له بوعدٍ صادقٍ. ليس المهم أنا وحدي ولكن سوف أجعل من مكتبتك هذه قبلة للكُتاب والقراء السودانيين. وبالفعل بدأوا يتقاطرون نحو الدار بعدئذٍ وصارت محط أنظارهم، وقد نشر العديد من الكتب لأصدقاء وجدوا عنده من الرحابة ما وجدته أنا كذلك. وأحسب الآن بعد أن مضى إلى رحاب ربه أنه يعلم إنني صدقت فيما قطعته له من وعد، فقد أصبحت (جزيرة الورد) مقصدهم ومرفأ لهم وأنا سعيد بذلك.
ثمَّ من بعد كتاب (الخندق) توالت اصداراتي معه، فنشر لي سلسلة (نون والألم/ الممنوع والمنشور في السودان) إلى أن بلغت أربعة أجزاء. وبعدها نشر لي (بيت العنكبوت/ أسرار الجهاز السري للحركة الإسلاموية في السودان) ثمَّ الكتاب الأخير (الطاعون/ اختراق دولة جهاز الأمن والمخابرات في السودان) وجميعها تعددت طباعتها، علاوة على إعادة نشر كتاب (سقوط الأقنعة/ سنوات الأمل والخيبة في السودان) وكتاب (حوار البندقية/ الأجندة الخفية في الحرب الإثيوبية الإريترية). وكان يسألني دوماً ما إذا كان هناك جديد. وفي نفس الوقت يبدي قلقه من النظام البائد في السودان ويطلب مني الحذر واليقظة.
يحدثني كثيراً عن محاولاتهم اختراق المكتبة ومضايقته ومحاولة توصيل رسالة له بأساليب تمرسوا عليها لكي يثنوه عن المضي قُدماً في طريق نشرة كُتبي، فهم كما هو معلوم كانوا يخشون الكلمة أكثر من خشيتهم رب العالمين. وجراء ذلك أصبح هو أكثر حذراً في الذهاب للخرطوم للمشاركة في معرض الكتاب السنوي.
لم تكن الكتب بالنسبة له مصدر رزق فحسب وإنما رسالة كأنه مُكلف بها، وهي عشقه الذي يتباهى به. تراه يسير متبختراً بين ردهات المكتبة لينقل كتاب من مكان إلى آخر دون حاجة لذلك سوى تلبية نداء داخلي يحثه على هوايته المحببة. ولذا تراه أيضاً لا يقوى على الجلوس طويلاً في مكان واحد دون أن يمارس تلك الطقوس التي يهواها.
نظراً لحبه واخلاصه للمهنة كنا نتضايق معاً من أفعال ضعاف النفوس الذين يعمدون إلى استنساخ كتبي ويشعر بحسرة شديدة لذلك. وأحياناً يذهب بنفسه ويتجول بين الباعة في محاولة ليعرف من الفاعل دون جدوى. والحقيقة تلك من الظواهر السالبة ذات المردود السيء على مصر، ليس من ناحية مادية فقط وإنما من ناحية انعكاس ذلك معنوياً على صيت البلاد في مجالي الطباعة والنشر.
كان الحاج فتحي هاشم محبوباً وسط زملائه الناشرين وأصحاب المكتبات ويحظى باحترام كبير في أوساطهم لصفاته التي ذكرت، فهو من الرواد المخضرمين في هذه المجال والحريصين على الارتقاء به منذ سنين عدة.
سوف يفتقده المعرض السنوي للكتاب في القاهرة الذي بدأت فعاليته هذه الأيام، فقد كان حريصاً في المشاركة كل عام، وتجده في قمة السعادة كلما اقترب موعد المعرض فهو بالنسبة له يمثل عيداً ينبغي الاحتفاء به.
بقدر حزني عليه وافتقادي لصديق عزيز، إلا أنني سعدت عندما علمت أن ابنه (محمد) سوف يسير على دربه بذات الخُطى التي خطاها ورسخها والده، وسوف تكون المكتبة كما العهد بها منارة للمعرفة ومنبراً لنشر الوعي والثقافة مثلما تمنى صاحبها. ومن المؤكد أنها ستكون قبلة للمؤمنين بدورها، والعاملين على الارتقاء برسالتها.
نسأل الله أن يتقبل الحاج فتحي هاشم قبولاً حسناً ويسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وليرحمه الله بقدر ما أحب الناس وأحبوه. كما نسأله تعالى أن يطرح البركة في ذريته. وخالص العزاء لأصدقائه وزملائه وأسرته وأعان الله ابنه (محمد) في مواصلة الرسالة التي مضى بها الوالد إلى رحاب ربه راضياً مرضياً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.