روزنامة الأسبوع ـ كُلُّنا فَارِس!
كتب: د. كمال الجزولي
.
الإثنين
ثلاث مفارقات عجيبة في شأن المأساة الإنسانيَّة التي ظلت تتعرَّض لها أقليَّة الرُّوهينقا المسلمة في ميانمار، على الأقل طوال العقد المنصرم:
المفارقة الأولى: أن الاتِّحاد العالمي لعلماء المسلمين، بارتباطاته المعروفة مع الأخوان المسلمين، وحركات الإسلام السِّياسي، عموماً، في مختلف البلدان، ظلَّ، من هذا المنطلق، يؤازر النِّظام الإسلاموي البائد في بلادنا، وبوجه خاص في معركته الدُّونكيشوتيَّة مع المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة التي اتَّهمت رئيسه، وعدداً من مسؤوليه، بارتكاب جرائم في إقليم دارفور، وأصدرت مذكِّرات توقيف بحقِّهم، فأضحى، بدعم من هذا الاتِّحاد، حرباً على هذه المحكمة، لا يفتأ يصفها بأنها محض أداة في يد الاستكبار الدَّولي، ويتَّهمها بكلِّ ما في قاموس البذاءات السِّياسيَّة المجَّانيَّة من ألفاظ، ويتوعَّدها بالويل والثُّبور، وعظائم الأمور! غير أن هذا الاتِّحاد نفسه انقلب، الآن، في حركة بهلوانيَّة، يطالب الأمم المتَّحدة بسرعة تحويل جرائم ميانمار بحقِّ أقليَّة الرُّوهينغا المسلمة، إلى «نفس» هذه المحكمة، داعيا حكَّام المسلمين لدعم هذا التَّوجُّه بقوَّة، مشيراً إلى أنه ظلَّ، لأكثر من ستِّ سنوات، يتابع ما يعاني الرُّوهينغا من قتل، واغتصاب، وتعذيب، وتهجير، وانتهاكات، وإبادة جماعيَّة، وسحق لإنسانيَّتهم، وتدمير لقراهم، فلكأنه يعدِّد، بالضَّبط، «نفس» جرائم النِّظام الإسلاموي في السُّودان!
المفارقة الثَّانية: أن أونغ سان سو تشي، مستشارة ميانمار «رئيسة الوزراء» التي لطالما اعتُبرت بطلة عالميَّة، وحصلت على جائزة سخاروف عام 1990م، وجائزة نوبل عام 1991م، وجائزة نهرو عام 1992م، ولقب الشخصية الإنسانية لسنة 2016م، فضلاً عن الكثير غيرها من الجوائز العالمية، كميداليَّة الكونغرس الذهبيَّة، وجائزة مدينة أوكسفورد، وجائزة سفيرة الضَّمير المرموقة، والميداليَّة التِّذكاريَّة لمجلس الشِّيوخ التشيكي، وجائزة فاتسلاف هافيل للمعارضة الخلَّاقة، إنتهت كأكبر داعم للعنف، والقهر، والظلم في بلدها، ليس، فقط، لأنَّها غضَّت الطرف عن الاعتداءات الوحشيَّة الممنهجة ضدَّ الرُّوهينغا، والتي تُعتبر الأفظع في العالم المعاصر، بل ولأنها سعت، عمليَّاً، أمام محكمة العدل الدَّوليَّة في لاهاي، أثناء نظر الدَّعوى المرفوعة من قامبيا ضدَّ ميانمار، للتَّقليل من شأن تلك الجَّرائم، ما يُعتبر دفاعاً عن فظائع الجَّيش الميانماري، والمليشيات البوذيَّة، ضدَّ هذه الأقليَّة المنكوبة، لدرجة اضطرار مئات الآلاف منهم للفرار، على أقدام حافية عبر الحدود إلى بنغلاديش، وعلى زوارق متهالكة عبر البحر إلى ماليزيا، الأمر الذي أودى بحياة الكثيرين منهم، دَعْ ما تعرَّض له النَّاجون من أهوال! بالنَّتيجة أصبحت «بطلة الأمس» هدفاً لما لا حصر له من الإدانات على خذلانها لهؤلاء المساكين، وللعديد من المطالبات بسحب كلِّ تلك التَّكريمات منها، لكونها استخدمت منصبها، وسلطتها الأخلاقية، للتَّغطية على هذه الجَّرائم البشعة! وفي الأوَّل من فبراير 2021م، وفي ما يشبه جزاء سنمار، انقلب عليها، بغتةً، نفس جيشها الذي لطالما مالأته، ولم تستشعر أقلَّ دافع من أبسط ضمير إنساني كي تتَّخذ قراراً شجاعاً واحداً في وجه تنكيله بالضَّحايا، فزجَّ بها في غيهب السِّجن!
المفارقة الثَّالثة: أن إدارة «مسجد» ولاية «جوهور» بماليزيا منعت لاجئي المسلمين الرُّوهينغا من الصلاة فيه، محاولة تبرير قرارها العجيب عن طريق الاستناد إلى أوامر حكوميَّة تستثني «الأجانب» من دخول المساجد، لمحاصرة فيروس كورونا، بإفساح المجال للماليزيِّين وحدهم! على أن «مجلس تنسيق المنظمات الإسلاميَّة الماليزيَّة» ندَّد بالقرار، واصفاً إياه بأنه متطرِّف، ومخالف لتعاليم الإسلام، ومناقض لمبادئ المساواة والأخوَّة، وداعياً «إدارة الشُّؤون الدِّينيَّة والإفتاء» للتَّحقيق في ملابسات وضع لافتة أمام المسجد تمنع، صراحة، أبناء أقليَّة الرُّوهينغا المسلمة، بالذَّات، من دخوله!
الثُّلاثاء
في اللقاء التَّفاكري لدولة رئيس الوزراء مع مجموعة من المفكِّرين والمثقَّفين حول رؤية وأولويَّات الحكومة الانتقاليَّة، والذي استضافته، بالأربعاء 24 فبراير 2021م، «إدارة الشؤون العلميَّة بجامعة الخرطوم»، عزوت إلى انعدام الإرادة السِّياسيَّة السَّبب في عدم إجازة «قانون مفوَّضيَّة العدالة الانتقاليَّة»، بالذَّات، في الجلسة المشتركة لمجلسي السَّيادة والوزراء، بالثُّلاثاء 23 فبراير 2021م! غير أن دولة الرَّئيس ردَّ على احتجاجي، موضِّحاً أن السَّبب يعود لطلب الوزراء «الجُّدد» تأجيل الأمر، كونهم لم يجدوا وقتاً لدراسته، فألفيت نفسي أتمتم متسائلاً: وهل احتاجوا لأيِّ وقت كي يوافقوا على الاستوزار؟!
الأربعاء
كاذب من يزعم أننا فقراء! فأبسط ما ينهض دليلاً على ذلك أن مدينة الأبيِّض وحدها، ظلت، منذ القرن السَّابع عشر الميلادي، سوقاً مهمَّة للمحاصيل والسِّلع الواردة من كلِّ أنحاء السُّودان، كالسِّمسم، والدُّخن، والتَّبلدي، والعرديب، والسَّنمكَّة، والقرض، والعاج، والجُّلود، والماشية، والفول السُّوداني، والأعشاب الطِّبِّيَّة، وريش النِّعام، وشمع العسل، وغيرها، وغيرها؛ كما ظلت، طوال تلك القرون، مقرَّاً، بصفة خاصَّة، لأكبر بورصة عالميَّة للصَّمغ العربي، دَعْ الخيرات التي لا أوَّل لها ولا آخر، والتي تزخر بها بلادنا، بما في ذلك الإمكانات السِّياحيَّة الهائلة، من جبل مرَّة، إلى سواحل البحر الأحمر، إلى آثار الحضارات العريقة التي تنطق بها الجُّغرافيا الممتدَّة، طولاً وعرضاً، من تخوم الخرطوم إلى أقصى شمال السُّودان، والتي تعتمد على أقلِّ منها بكثير اقتصاديَّات بلدان بأكملها، دَعْ القطن طويل التِّيلة، في أرض الجزيرة الخضراء، والذي تسلَّط عليه النِّظام البائد، فدمَّر أضخم مشروع لزراعته في الشَّرق الأوسط وأفريقيا، وما إلى ذلك من المنتجات التي تتميَّز بها شتَّى أقاليم الوطن.
نعم، كاذب من يزعم فقرنا! على أن مشكلتنا الحقيقيَّة هي أن جُلَّ الأنظمة التي تعاقبت على التَّحكُّم في هذه الثَّروات لم تحسن استثمارها، بل أهملتها، ومضت تنبش في صناديق قمامة العالم!
جالت بخاطري هذه الخاطرات عندما جلست أشاهد الفضائيَّة السُّودانيَّة، مساء الجُّمعة قبل الماضية. فعلى حين كان شريطها الأخباري يعرض خبراً بهيجاً عن جهود تُبذل لتصنيع الصَّمغ العربي بولاية شمال كردفان، وآخر عن إبداء شركات أمريكيَّة رغبتها في الاستثمار في مجال المنتجات البحريَّة في السُّودان، كان صديقنا الصَّحفي البارع شوقي عبد العظيم يستضيف، على نفس الشَّاشة، الخواجة فولكر بيرتَس، الممثِّل الخاص للأمين العام للأمم المتَّحدة، ورئيس بعثتها المتكاملة لدعم المرحلة الانتقاليَّة في السُّودان «يوناتامس»، حيث طرح، بالمصادفة، وبالعربي الفصيح، ملاحظة بسيطة، لكنها ثاقبة الأهمِّيَّة، قائلاً: «وجدت في أسواق الخرطوم أنواعاً من المنقة السُّودانيَّة، مع أنني ظللت أفتقد في بقالات بلدي ألمانيا أيَّ عصير منقة سوداني»، فأحسست بوخزة في قلبي!
مشكلتنا، ببساطة، أننا نصدِّر خيراتنا خاماً، لتعود إلينا مصنَّعة، فنشتريها بأضعاف ما بعناها به! وتذكَّرت، على الفور، ما أخبرني به صديق مهاجر في كندا، من أن طبيبه الذي يعالجه، هناك، من ارتفاع الكوليسترول، ظلَّ يكتب له أدوية لا حصر لها، حتَّى فاجأه، يوماً، بأن نصحه بترك كلِّ تلك العقاقير، واستخدام علاج جديد اسمه «تبلدي TABALDI»، يُستخرج من ثمرة تنمو في غرب السُّودان وغرب أفريقيا! وأكَّد صديقي أنه، بعد أشهر قلائل من تناوله للعلاج «الجَّديد»، بدأ يشعر بالتَّحسُّن لأوَّل مرَّة! وذكَّرتني تلك الحكاية، أيضاً، بالوصفة التي كان بذلها لي، مطالع ثمانينات القرن المنصرم، أستاذنا وصديقنا «الحكيم» المرحوم عبد الكريم ميرغني، لتفادي اضطرابات القلب، بابتلاع بضع فصوص متوسِّطة من الثُّوم الصَّاحي، كلَّ صباح، على الرِّيق! ويقيني أن تلك «الرُّوشتَّة» هي التي أخَّرت لديَّ تلك الاضطِّرابات لأكثر من ثلاثين عاماً، ولو لم أتوقَّف عن اتِّباعها، نتيجة وسوسة من أحد الأبالسة، مع بدايات العقد المنصرم، لما احتجت لعمليَّة القلب المفتوح التي أجريت لي قبل بضع سنوات، لأكتشف، بعدها، أن ألمانيا ودول غربيَّة أخرى تصنِّع، الآن، من «الثُّوم» عقاراً طبِّيَّاً! وتذكَّرت، كذلك، خالي المرحوم بشرى الأنصاري الذي عالجه عبد الكريم ميرغني، أيضاً، من نوبات ملاريا لعينة غلبت الطِّبَّ والطَّبَّاب، وذلك بوصفة مشروب من منقوع لحاء النيم أو اللبخ على شاطئ أبروف! دَعْ «القرض» الذي كان يعجُّ به دولاب المرحوم والدي، يستخدمه كعلاج لنا من نزلات البرد، رغم أن عمله بالسِّلاح الطِّبي كان يتيح لنا كلَّ ما قد نحتاجه من علاج! وقال لي مستثمر إيطالي من زبائني، مرَّة، ونحن مسافران بالطائرة إلى بورتسودان، نحلق فوق بعض السُّهول الفساح على مدِّ البصر: «لو كانت لي سلطة على هذه الجُّغرافيا الهائلة لنثرت عليها، قبيل كلِّ خريف، بذور السَّنمكة، ولحصدتُّها وصدَّرتها بعد الخريف، وملأت خزائن هذه البلاد بأموال مصانع الأدوية»!
تلك نماذج، فقط، من المجال الطِّبِّي، فما بالك بالمجالات الأخرى كافَّة، كالتَّوقف، فوراً، عن تصدير خام «الصَّمغ العربي» الذي يدخل في ألف منتج ومنتج، من المواد اللاصقة إلى الحلويَّات والعقاقير، والبدء في تصنيعه كما سيفعلون، الآن، في شمال كردفان؟! أتساءل، وفي ذاكرتي، إن لم تخُنِّي، آن ديستان، زوجة الرَّئيس الفرنسي الأسبق، والتي عرضت رغبتها، قبل عقود طوال، في إنشاء مشروع كهذا في بورتسودان، فما الذي حالَ دون ذلك؟!
الخميس
على أخيرة هذه الصَّحيفة، بالثُّلاثاء 2 مارس 2021م، طالعت خبرين يكاد التَّناقض بينهما يبعث على التَّقيُّؤ!
الخبر الأوَّل أن أعضاء مجلس السَّيادة الثَّلاثة الجُّدد من الحركات رفضوا استلام 100 سيَّارة ماركة أكسنت على الزِّيرو خصِّصت لهم، ولمديري مكاتبهم، وطافم موظَّفيهم، وامتنعوا، من ثمَّ، عن أداء اليمين الدُّستوريَّة، واستلام مهامهم، ما لم تتمَّ الاستجابة الفوريَّة لـ «مطالبهم الامتيازيَّة» بأن تخصَّص لهم ثلاث سيَّارات ماركة لاندكروزر، وثلاث توسانات لمديري مكاتبهم، وأكسنتات لبقيَّة موظفيهم!
أمَّا الخبر الآخر، على بعد عمودين في نفس الصَّفحة، فعن مقطع فيديو على مواقع التَّواصل الاجتماعي، «تناشد» فيه شقيقة الشَّاب الثَّائر فارس محمَّد عثمان الجِّهات «المسؤولة» والمواطنين الإسراع في المساهمة بعلاج شقيقها الذي أصيب، أثناء ثورة ديسمبر «المجيدة»، بقذيفة بمبان استهدفت رأسه من مسافة قريبة، فتسبَّبت له بكسر في الجُّمجمَّة! وأضافت أن فارساً لم يجد المساندة من أيَّة جهة! ومع ذلك أنفقوا، من مواردهم الذَّاتية، على عمليَّة جراحيَّة أجريت له، غير أن رأسه ما يزال مفتوحاً، وفي حاجة إلى جراحة أخرى! تفاعل النُّشطاء مع المقطع، ودشَّنوا هاشتاغاً بعنوان «كلتا فارس» للمطالبة بالمساهمة في علاج الثَّائر البطل!
لا شكَّ أن ذوي فارس من الأسر المتعفِّفة، وإلا لما تباطأت مناشدتهم حتَّى استنفدوا كلَّ جهدهم الذَّاتي. وليس ثمَّة ما يحمل على الاعتقاد بفرادة هذه الحالة، فضحايا إجرام النِّظام البائد، الله لا أعاده ولا أجَره، أكثر من أن يتمَّ إحصاؤهم! فيا سيِّدي دولة الرَّئيس حمدوك، لا أسألك، فقط، بأن تخفَّ لإنقاذ حياة فارس، الأمر الذي لا يحتمل التَّأجيل بالطبع، وإنما بضرورة ابتداع مؤسَّسة حكوميَّة خاصَّة تتولي العناية بهؤلاء الأبطال وأسرهم، ويُنظَّم لها صندوق خاص، وحبَّذا أن توكل إدارتها إلى شباب المقاومة بصفة حصريَّة. هذا واجب ينبغي ألا يتواصل إهماله، وإلا تلبَّسنا الخجل من قمم رؤوسنا إلى أخامص أقدامنا!
الجُّمعة
وصف صديقي خالد عمر، وزير رئاسة مجلس الوزراء، عدم حماسي لسلام جوبا، رغم أهميَّة إيقاف الحرب، بأنه مؤسف! ولأهمِّيَّة الاستمرار في الحوار أعيد، هنا، تلخيص بعض ما سبق لي التَّعبير عنه، وذلك من جانبين: الأوَّل يتَّصل بالخلل البنيوي في التَّفاوض بين طرفين هما، في الأصل، طرف واحد، لانتماء كليهما للثَّورة، مِمَّا كان يَفترِض التَّفاوض بالدَّاخل، وخشيتي من أن يفضي ذلك لتكريس وضع الطرفين، سايكولوجيَّاً، كخصمين، ليس في جوبا، فحسب، بل وفي المستقبل بوجهٍ عام! أما الجَّانب الآخر فيتَّصل بعدم وجود فارق جوهري، من حيث الأجندة، بين «سلام جوبا» وما سبقه من تجارب فاشلة، من أبوجا، إلى الدَّوحة، وحتَّى نيفاشا؛ كما يتَّصل بثنائيَّة التَّفاوض؛ وعدم إشراك أصحاب المصلحة من النَّازحين، واللاجئين؛ دَعْ أنه لا يعلم، إلا الله وحده، ما سيكون عليه الحال، غداً، سواء لم يتمَّ الاتِّفاق مع حركتي عبد الواحد والحلو، أو تمَّ هذا الاتِّفاق، بالنَّظر للمحاصصات التي جرت في جوبا، وأقرَّ بها حتَّى جمعة كندة، مستشار السَّلام؛ ويتَّصل، كذلك، بعدم شمول الاتِّفاق لقضايا أراضي الوطن السَّليبة، كحلايب؛ وبإقحام مسائل، كالتَّعويضات، مثلاً، بمعزل عن المشروع المتكامل المفترض لـ “العدالة الانتقاليَّة”؛ وبعدم تحديد المسؤوليَّة عن مصائر الشُّهداء، والجَّرحى، والمفقودين؛ وبمحاسبة رموز النِّظام البائد؛ وبتسليم المطلوبين منهم للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة؛ وإلى ذلك بعدم تكوين المجلس التَّشريعي؛ بل وبعدم إنشاء مفوضيَّة السَّلام نفسها، ما أخرج التَّفاوض من ولاية مجلس الوزراء؛ ويتَّصل، أيضاً، ببعض المدد المنصوص عليها في جوبا، والتي تتجاوز، عمليَّاً، فترة الانتقال نفسها؛ ويتَّصل، كذلك، بعدم وضوح كيفيَّة تكوين وفد الحكومة، ولا الأسس التي حكمت اختيار أعضائه، ولا حدود صلاحياتهم، ولا مدى تفويضهم؛ فضلاً عن شمول الوفد الآخر لشخصيَّات لا تمثِّل الكيانات التي تدَّعي التَّعبير عنها! وهذا محض غيض من فيض!
السَّبت
ضمن برنامج «زووم» الذي نظَّمته «مجموعة حتَّى نعود» بغرب أستراليا، على قناة «سودان بكرة»، مساء 26 فبراير 2021م، أثار المنصور جعفر مسألة غاية في الأهميَّة، بدا لي أنها أقرب ما تكون لما سبق لي أن أثرته، أنا نفسي، ذات روزنامة، بشأن البناء الدِّيموقراطي الذي نريد، حيث أننا مقدمون على مؤتمر دستوري تعقبه، بعد سنوات قلائل، انتخابات في نهاية فترة الانتقال. وأذكر أنني كتبت عن توقُّعي مطالبة المهنيِّين، والشَّباب، والنِّساء، لدى وضع قانون الانتخابات، بتخصيص دوائر لهم، باعتبارهم القوى «الحديثة» الأكثر فاعليَّة في نشر الوعي، والفئات والشَّرائح الطبقيَّة والنَّوعيَّة الأكثر تضحية وتأثيراً في تفجير ثورة ديسمبر 2018م، والمستحقِّين، من ثمَّ، للتَّمثيل في أيَّة هيئة تشريعيَّة/ رقابيَّة. ومع أن هذا التَّوقُّع سيشمل، بطبيعة الحال، موافقة القوى السِّياسيَّة والمدنيَّة الأساسيَّة، في البداية، إلا أنه سرعان ما سيصطدم بنكوص الأحزاب التَّقليديَّة عن هذه الموافقة، جرياً على عادة قديمة مرذولة توفَّرت خبرتها، بالأمس القريب، من بين ملابسات انتفاضة أبريل 1985م التي أطاحت بنظام النِّميري. غير أن الكثير من النَّماذج السَّابقة عليها شهدت أن ميلاد «القوى الحديثة»، كإرهاص تاريخي ببزوغ الفجر الباكر لتيَّار الاستنارة، من خلال حركة الخريجين، مثلاً، أو تكوين الاتِّحادات، والجَّمعيَّات الفئويَّة، أو الانخراط في عمليَّات الانتاج، أو تسيير دولاب الإدارة، قد سبق ميلاد الأحزاب، أحياناً، أو بانفصال عن ذلك، أغلب الأحيان، ومن فوق كلِّ وقائع المجابهة الوطنيَّة مع الاستعمار. لذا، عند وضع أول قانون للانتخابات في البلاد، بين يدي الحكم الذَّاتي، عام 1954م، كان طبيعيَّاً أن تجري محاولة جادَّة للتَّعبير عن ذلك الدَّفع الحداثي، بتخصيص خمس دوائر لخريجي المدارس الثَّانويَّة. على أن حكومة الأحزاب التَّقليديَّة ما لبثت أن ألغتها. ثمَّ أعيد العمل بها، بعد زيادة عددها إلى 15، وتخصيصها لخريجي الجَّامعات، في انتخابات 1965م. بيد أنها سرعان ما ألغيت، هي الأخرى، في انتخابات 1967م.
الخطة الأجدى للاعتراف بدور «القوى الحديثة» في المشاركة البرلمانيَّة، كادت ترد، للمفارقة، ضمن النِّظام الانتخابي الذي اجترحه النِّميري، بإفراد دوائر خاصَّة للعمال، والمزارعين، والمهنيِّين، والرَّأسماليَّة الوطنيَّة، والضُّبَّاط والجُّنود، لولا عائق الشُّموليَّة. لذا، فعند انفجار الانتفاضة في أبريل 1985م، كان نموذج «الخرِّيجين»، أضيق من استيعاب الفاعلين كافَّة في الإنتاج والتَّنمية، مثلما كان نموذج «تحالف قوى الشَّعب» المايوي مقيّداً بالحرِّيَّات المحظورة، والنَّشاط غير المستقل. على أن قوَّة المطلب ألجأت الأحزاب التَّقليديَّة إلى الاضطِّرار، على الأقل، لـ «ابتلاع» خيار «الخرِّيجين»، مجدَّداً، مع العمل على تجييره لمصلحة الثَّورة المضادَّة المتمثِّلة في تحالف الأحزاب التَّقليديَّة والمجلس العسكري، على العكس من الوضع في غمرة الانتفاضة، حيث لم يظهر، في البداية، خلاف يذكر بين كتلة «القوى الحديثة» من عمال ومزارعين ونقابيِّين ومهنيِّين ونساء وشباب .. الخ، من جهة، وبين تحالف القوى الحزبيَّة التَّقليديَّة مع القيادات العسكريَّة العليا، من جهة أخرى، حول «مبدأ» إشراك «القوى الحديثة» في السُّلطة!
هكذا، عند إعداد قانون الانتخابات، شكّل مجلس الوزراء، برئاسة الجزولي دفع الله، لجنة وزاريَّة عهد إليها باستطلاع آراء القوى المختلفة. وطوال أربعة أشهر اجتمعت اللجنة بكلِّ الأحزاب، والِّنقابات، والتَّنظيمات المدنيَّة، حيث حصرت وصنَّفت شتَّى الآراء، فجاء تمثيل «القوى الحديثة» على رأسها، فرفعت تقريراً بذلك إلى مجلس الوزراء، ناقشه، وأجازه، ثم رفعه إلى المجلس العسكري، بقيادة سوار الدهب، تمهيداً لعقد اجتماع مشترك بين المجلسين لإطلاق القانون. لكن مجلس الوزراء فوجئ، بدلاً من ذلك، لدهشته، بقرار المجلس العسكري حول تكوين لجنة سياسيَّة «جديدة» تجري «المزيد» من استطلاعات الرأي بين «نفس» الأحزاب والقوى، دون الإفصاح عن الحكمة وراء ذلك!
إذن، وبقدر ما يصحُّ، الآن، توقُّع ألا تتخلَّى «القوى الحديثة»، شاملة «لجان المقاومة»، عن حقِّها بالمشاركة في السُّلطة السِّياسيَّة، يصحُّ، أيضاً، توقُّع ألا يتخلى تحالف القوى التَّقليديَّة والشَّريحة العسكريَّة العُليا، بقيادة البرهان، عن مناوأة ذلك المطلب، وإن بطرق ملتوية! لذا فإن ألزم ما يلزم «القوى الحديثة» ألا تركن لخطَّتها القديمة القائمة على مجرَّد المطالبة بتخصيص دوائر لها، وأن تتحول، منذ الآن، نحو خطة أقوى مضاء: العمل لأجل أن يتكوَّن البرلمان نفسه من غرفتين two chambers: غرفة للدَّوائر الجُّغرافيَّة، وأخرى لدوائر «القوى الحديثة»، بحيث لا تصدر القوانين والقرارات الأساسيَّة، إلا بالموافقة عليها، بنسب مئويَّة مرتفعة (ثلثي الأعضاء مثلاً)، في جلسات مشتركة للغرفتين. لكن هذا الأمر يقتضي، منذ الآن، حملة ضارية لإدراج المطلب ضمن الأجندة الرَّئيسة للمؤتمر الدُّستوري.
الأحد
من يذكرون الكلب المدلل «شِحيبَر» في مسرحيَّة عادل إمام «الواد سيِّد الشَّغَّال»، أو «كلب السِّت» المرتاح في قصيدة أحمد فؤاد نجم، فلينسوهما، ولينسوا كلَّ «مَن» عرفوا مِن الكلاب المحظوظة، وليتأمَّلوا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، من هناءة العيش الخرافي، وبحبوحة الحياة الأسطوريَّة، مِمَّا ينتظر «الكلبة لولو»، من «سكَّان» ناشفيل بولاية تينيسي، والتي ما تزال في ريعان شبابها، حيث تبلغ من العمر ثماني سنوات، فقد توفِّي صاحبها الملياردير الأمريكي الأعزب «بيل دوريس» أواخر العام الماضي، بعد أن أوصى لها يمبلغ 5 ملايين دولار! وذكرت «قناة دبليو تي في إف» التي أوردت الخبر أن «دوريس» السَّفيه أوصى، أيضاً، بأن تستلم المبلغ صديقته «مارثا بيرتون» لتتولَّى الصَّرف منه على رعاية «لولو» مقابل مرتَّب معقول، ربَّما كي «يعدل» بين حبِّه لـ «مارثا» وحبِّه لـ «لولو»!