رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الخروج من الذات لملاقاة الآخر!
جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة
.
كتب: د. الواثق كمير
.
الحلقة (26)
منصور: عاشِّقُّ الفنِّ والطرَّب
أشِرتُّ في الحلقة 11 إلى ولًّه منصور وعشقه للفن والطرب، وأنني سأفرد لذلك مساحة وافية في هذه السلسلة من المقالات، وهآنذا أكتبُّ عن هذا العشق. ومع ذلك، فمنصور ليس بمستمعٍ للموسيقى ومُستمتعٍ بالغناء ومُتذوقٍّ للفن فحسب، بل هو صاحب وصانع فكرة التوثيق للأغاني السودانية الخالدة. وقبلًّ أن أقوم باستعراض فكرته، سأُفرِدُّ هذه الحلقة للحديث عن خلفية حُب منصور للفن والطرب وعلاقاته مع أهل المغنى، ومرجعيتي في ذلك ستكون ما خطه هو بنفسه في “شذرات من، وهوامش على سيرة ذاتية”، الجزء الأول، وخصص لهذه الحلقة حيزغً مُقدراً من الكتاب. فبجانب السينما وهواية جمع المنحوتات الفنية والصور الزيتية، استهوى منصور الموسيقى الكلاسيكية منذ مرحلة دراسته الثانوية بمدرسة وادي سيدنا، التي أولجه في عالمها مستر لانق، ناظر المدرسة يومذاك. بالنسبة لمنصور، فإن المسيقى، أياً كان نوعها، هى أسمى تعبير عن الروحانية الإنسانية، كما هي مبعث سعادة قصوى للمستمع. لذلك، يقول الناس عند سماعهم لأي حديث يسُر القلب، ويثلج الفؤاد، أن لذلك لحديث “وقع الموسيقى في الأذن”، مما جعل الموسيقى تظل هي لغة العواطف لأنها تنقل عبر السماع أحاسيس معينة اختلجت في نفس المتلقي. ويستشهد منصور بأفلاطون في وصفه للموسيقى بأنها الصفة الثامنة المُكملة للفيلسوف، إذ يرى أن الرجل لا يصبح فيلسوفاً إلا إذا أصبح ذا مزاج موسيقي مُنسجم. بل، أن الموسيقى، حسب قوله، “تُكسب الحياة معنى، وتجعل للريح أجنحة، وتضفي على شطحات الخيال دلالات”.
هذا عن شغف منصور بالموسيقى الغربية الكلاسيكية، أما عن موقع الغناء السوداني في نفسه وتعلُّقه به منذ بواكير حياته عندما استمع لأول مرة مباشرة للغناء عبر جهاز الفونوغراف الذي أدخله في الأسرة خاله عبد الهادي الصاوي عند زواجه. وأول أغنية رسخت في ذهنه كانت هي “الهواكم بقى لي جريمة” لأحمد عبد الرحيم العمري، وكان يغنيها أولاد بري، والعمري هو واحد من أبناء العمراب الكُثر الذين تمهروا في الشعر الغنائي وغير الغنائي. أما السماع للأداء الغنائي المباشر فلم يتهيأ له إلا في منتصف فترة الدراسة الأولية حين اصطحب خاله أمين الصاوي لمشاهدة رواية مسرحية لخالد أبو الروس في نادي الزهرة الأمدرماني. فقد تخللت الرواية أغانٍ للفنان إبراهيم عبد الجليل، كان منصور يستذكر منها أغنية “غزال البر يا راحل والتي تمكنت في وجدانه. وبعد تعرفه لاحقاً بالمطرب حسين شندي، كان كل ما أطل عليه حسين يقول له منصور أبدا يا حسين ب”غزال البر” وأختم ب”حليل زمن الصبا الماضي”، وكلتا القصيدتين للشاعر المُبدِّع عبيد عبد الرحمن. هذا التعلُّق بالغناء السوداني، دفع منصور للسعي لااقتناء درره منذ عهد دراسته في وادي سيدنا الثانوية، خاصة وقد كان من صحبه في العنبر بداخلية كتشنر الشاعران حسين بازرعة والسر دوليب. واعترافاً بالجميل، يذكُر منصور ثلاثة أشخاص ساعدوه في بناء مكتبته من المنوعات الغنائية، هم: الأستاذ محمود الفكي، مدير الإذاعة في أول حكومة وطنية، والأستاذىصلاح أحمد محمد صالح، والأستاذ محمود أبو العزائم. وقد رأيت مكتبة منصور بأم عيني، كما أشرتُّ في الحلقة 11 أن منصور، للحفاظ على مقتنياته هذه، كان يخصص لها دولاباً خاصاً ويضع الشرائط بترتيب مذهل على رفوفه وأدراجه المتعددة بحيث يسهل البحث عن ما يريده ساعة الحاجة. ومن دقة منصور في التعامل مع الأشياء كان لا يكتفي بكتابة إسم المطرب على شريط الكاسيت بل يكتب بخط رفيع أسماء كل الأغاني على الجانبين A وB. ومن حرصه الشديد، فقد كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يعيرك أي من الشرائط، فكان لا بد من التحايل عليه. فكنت أشتري شرائط الكاسيت الفارغة وأتردد على منزله حينما يكون مسافراً، فاختار ما يروق لي من مطربين وأطلب من أباينش، مديرة المنزل، أن تنسخها لي في جهاز الكاسيت ذا الطابقين، على أن أعود بعد أيام لاستلامها، هذه المرة في حالة وجود منصور أو غيابه.
هذا الوَله بالغناء، وتفاعله مع الطرب السوداني، جعل منصور يُصاحب عدداً من المطربين، وعلى رأسهم أربعة من ملوك الفن حينذاك: حسن عطية، المُلقب بر”أبو علي” وعبد العزيز محمد داؤود واحمد المصطفى وعبد الكريم الكابلي. كان حسن عطية هو فنان الصفوة في الخرطوم، خاصة وأنه نشأ وسط أسرة عبد القادر سليمان الشقيق الأكبر للفنان حسن سليمان المشهور ب “الهاوي”. عيشه في كنف هذه الأسرة كان له دور كبير في صقل مواهب حسن عطية، الذي تعلم العزف على العود على يد “الهاوي”. أيضاً، بسبب وجوده مع هذه الأسرة، حُظيًّ “أبو علي” باللقاء والتعرف على خليل فرح، صديق الأسرة، فوقع بين الرجلين إعجاب مشترك، وأهداه واحدة من عيون الشعر العربي، التي نظمها عمر بن ربيعة ولحنها وغناها الخليل. ومن جانب آخر، زاد من حب منصور لحسن عطية اختياره لعدد من أغاني عبد الرحمن الريح: أنت حياتي، حرمان، لو أنت نسيت، أنا سهران يا ليل، يا ماري عند الأصيل، وأقول أنت نور. كان منصور لا يهوى سماع اغانى “أبو علي” إلا في بيته عندما استقر به المقام في الخرطوم في أوائل السبعينات من القرن الماضي، بصحبة صديق أو قلة من الأصدقاء من مُحِبي السماع، ومن بينهم السفير الأمين محمد الأمين، ود. علي فضل، ود. أحمد عبد العزيز، والأستاذ عثمان محمد الحسن.
كان عبد الكريم الكابلي أيضاً مُحبباً إلى نفس منصور في صحبة أهل القانون، خاصة مَن تعرف عليهم إبان عمله بالمحاكم. لذلك، كان منصور يلتقي بالكابلي في منزل مولانا أحمد بدري وفي رفقة كبار رجال القانون: أحمد خير، عثمان الطيب، وصلاح حسن. وفي رأي منصور، أنه إذا كان حسن عطية هو فنان الصفوة في الجيل الأول من أهل المغنى الحداثيين، فقد أصبح الكابلي فنان الصفوة في الجيل الذي تلاه. ويضيف منصور أن أمسيات الكابلي في منزل “مولانا” كانت تزهو، بين الفينة والأخرى، بزيارات محمد عوض الكريم القرشي، والذي كان يصطحب معه المطرب عثمان الشفيع، ومن ثم الفنان الناشئ، يومذاك، خوجلي عثمان. وقد كتب منصور رثاءاً مؤثراً في خوجلي بعنوان “زرياب وأهل الوساوس”، والذي تم مصرعه، على حد قوله، “على يد رجل أفين قيل أنه مجنون و”ماهو بمجنون”، بل هو نتاج لثقافة الهوس الديني التى أطلق زمامها مَن لا يرعون لله إلَّا ولا ذمة” (منصور 2018، نفس المصدر، ص 287).
أما “أبو داؤود” فقد جمعته الحياة العامة مع منصور عندما كان يعمل صفيفاً بمطابع دار الصحف الاستقلالية حيث كان يعمل منصور نفسه في أولى تجاربه مع الصحافة. وبالرغم من أن أبو داؤود كان في بداهة عهده بالغناء في ذلك الوقت، إلا أن بعض أصحابه من العاملين بالدار، ومن ضمنهم الشاعر قرشي محمد حسن وعلي آدم ابن الخياط، يصطحبانه لحديقة الجندول ويدعون منصور وبعض أصدقائه للإنضمام لهم. ولمنصور رواية طريفة عن أبو داؤود الذي في يوم جاءه مغموماً ليقول له أنه قرر أن يترك العمل في المطبعة، إذ تم إبلاغه بأن بعض أفراد أسرة الإمام عبد الرحمن المهدي يرغبون في تفرغه ليكون فنان الأسرة في مناسباتها. لم يقبل أبو داؤود العرض بدعوى أنه فنان في أول الطريق وقد بدأ في تكوين مُعجبين بغنائه. وما أن بلغ الإمام الخبر حتى استدعاه ليقول له “أنا ما بقدر أحرمك من هواة طربك أو أحرمهم منك، فلتستمر في عملك ولتغني لمن شئت أن تغني في وقت فراغك”.
الفنان الرابع أحمد المصطفى، فقد حببه إلى نفس منصور، إلى جانب رخامة صوته، أدبه مع الجميع، ثم حُسن اصطفائه للمجموعات التي كان يغني لها، وكانت أغلب لقاءاته معه إما في منزل البيه عبد الله خليل أو عند سعد أبو العلا خصيب الوجه والقري. سمع منصور خبر وفاة أحمد المصطفى وهو في جدة في ضيافة صديقه صلاح إدريس، الذي حثه على تسجيل رثاء للراحل ليُنشر في الخرطوم. لم يكن منصور يحتاج إلى تحثاث، فوجدًّ نفسه مُمسكاً بالقلم في نفس اللحظة ليكتب رثاءاً لأحمد كان بمثابة رثاء لكل من لم يُتح له رثاؤهم، وهو في المهجر، فقال “رحل عنا أبو داؤود ثم رحل أبو علي وكانا – وأحمد – واحة نرفأ إليها في بيداء السياسة نسترق اللحيظات هرباً من وعثاء الحياة وسخائمها لننعم بما يعيد للنفس توازنها. وكنا نفعل ذلك مع ثلة من الأصدقاء لا يستحي المرء من أن يُعَري روحه في رفقتهم بعيداً عن غلاظة المغالين وسماجة المتوغلين” (منصور 2018، نفس المصدر، ص 289).
.
لم تقف علاقات منصور مع أهل المغنى عند هذه الكوكبة الزاهية من العمالقة الأوائل، حسن عطية والكابلي وأبو داؤود وأحمد المصطفى، بل امتدت لتشمل الذين التحقوا بهذه الكوكبة ممن برعوا وأجادوا في فنهم. يذكر منصور من هؤلاء: عثمان حسين، محمد وردي، إبراهيم عوض، مصطفى سيد أحمد، كمال ترباس، حسين شندي، عبد الوهاب الصادق، خوجلي عثمان، عوض الكريم عبد الله، وأحمد الفرجوني. وراء لقاء منصور مع كل واحد منهم كانت هناك قصة، عثمان حسين، مثلاً، فقد كانت أول القصائد التي تغنى بها من نظم أعز أصدقاء منصور، قرشي محمد حسن في دار الصحف الاستقلالية، وحسين بازرعة زميله في وادي سيدنا الثانوية. إبراهيم عوض كان الفنان المُفضل لصديق منصور الأستاذ أحمد محمد فضل، الذي لم يكن من المولهين بالغناء السوداني فيما عدا الفنان “الذري”. أما ترباس فقد أدنى غناءه إلى سمع منصور السفير عبد الله الحسن وصديقه عثمان أحمد ياسين شيخ الجزارين بالخرطوم. سببان يضعان محمد وردي في مكانة خاصة وعالية لدى منصور، أولهما هو إثراؤه للتعبير الغنائي السوداني بالشجن النوبي وبإلهاب الشعور الوطني، وثانيهما هو تجربة ذاتية كشفت عن الحس الوطني المتأصل عند الفنان. ويشير منصور هنا إلى قبول وردي الفوري لدعوة جون قرنق للغناء للمحاربين واللاجئين في معسكرات الحركة الشعبية على الحدود الإثيوبية-السودانية، كما ذكرت في المقال التاسع من هذه السلسلة. وقبل الغناء خاطب وردي الجمهور الكبير الذي جاء لسماعه “أنا نوبي من شمال السودان لي مثلكم لغتي التي أتحدث بها ومواريثي الثقافية التي أعتز بها، ولكني أغني بالعربية حتى أُطرب مواطني الذين لا يتحدثون النوبية”. في رأي منصور أنه “لو كان ساسة الشمال يبصرون هذه الظلال في تنوع السودان الثقافي، كما أبصرها وردي، لما أوقعوا أنفسهم وبلادهم في هلكات” (منصور 2018، نفس المصدر، ص291). كان منصور يكنُّ وداً خاصاً لوردي، ولا أنسى أنه كلفني قبل رحيل وردي بشهور معدودات أن أحمل له هدية من شراب مستورد فاخر وأسلمها له في منزله بأركويت. اتصلت به تلفونياً لإبلغة بالخبر السعيد ووعدته بالحضور إليه مساءاً حيث وجدته جالساً يروِّحُ عن نفسه في حديقة لها سور من الأشجار في ميدان صغير مواجه لمنزله من الناحية الجنوبية. وفي معرض “ونستنا” حكَّى لي وردي طُرفةً مفادها أن الرئيس البشير قد زاره للعزاء في رفيقة دربه، علوية محمود رشيدي، فقال له البشير مُداعباً: “إنت يا أستاذ وردي بتحتل قطعة أرض تابعة للدولة!، فرد عليه وردي: “إنت احتليت البلد كُلها مش حتة صغيرة زي دي”!