ساعة الحقيقة
كتب: د. خالد التيجاني النور
.
(1)
لم يكن الأمر محتاجاً لانتظار صحيفة “نيويورك تايمز” المرموقة لتكشف في تقرير لها بالأمس، ما كان واضحاً من سياق التطورات التي لازمتها، أن “مقامرة” التطبيع الذي انخرط فيه المكوّن العسكري في ترويكا الانتقال بلا حساب، مهدّدة بالانهيار بسبب التعقيدات المحيطة باستيفاء شروط الصفقة من الجانب الأمريكي مما يجعل الأحلام السودانية التي بنت قصوراً من الرمال على وقع وعودها، تواجه ساعة الحقيقة في ظل الضبابية التي تحيط بمصير تشريع “السلام القانوني” اللازم لاستعادة الحصانة السيادية للسوان بما يكفيه غوائل التعرض للمزيد من الابتزاز المالي حال صدور أحكام بأي تعويضات ضده من قبل أسر ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
(2)
جاء تقرير نيويورك تايمز المعنون بأن “اتفاق السلام بين السودان وإسرائيل معرض بالفعل لخطر الانهيار” على خلفية المحادثة التي جرت في وقت سابق من هذا الاسبوع بين الفريق عبد الفتاح البرهان ووزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو، والتي نقل فيها رئيس مجلس السيادة للوزير المنصرف مخاوفه من عدم تمرير الكونغرس لمشروع التشريع المثير للجدل حول “السلام القانوني” للسودان، وأن من شأن ذلك إبطاء دفء العلاقات الوليدة بين الخرطوم وتل أبيب، وأنه لن يكون بوسعه المضي قدماً في عملية التطبيع المنتظرة، ونقلت الصحيفة عن مصدر مطلع قوله إن السيد بومبيو أكد للجنرال البرهان أن “خطة الحصانة ستتم الموافقة عليها في الأسابيع القليلة المقبلة” دون تحديد قاطع لذلك. في وقت كفّ شركاء الاتفاق أيديهم عن العطاء في وقت تزداد فيه الأوضاع الاقتصادية سوءاً وقد كان تحسينها مناط الرهان في هذه المغامرة.
(3)
الانزعاج الذي أبداه السيد برهان في محله تماماً، وإن بدا اكتشافاً متأخراً، ذلك أن مكافأة الانخراط المتسرع في الاتفاق الإبراهيمي لن تكون قطوفها دانية، بما في ذلك ثمرات عملية شطب السودان من لائحة الإرهاب التي ابتدرها الرئيس المغادر دونالد ترمب بإخطار الكونغرس في 26 أكتوبر الماضي، وهو ما يُفترض أن يثمر في 11 ديسمبر عند نهاية مهلة ال 45 يوماً المتاحة للكونغرس بعدم اعتراض الخطوة، وهي إن كانت مسألة بالغة الأهمية في طريق تحرير السودان من ربقة الارتهان للابتزاز والعقوبات الأمريكية غير المبررة، إلا أنها مع ذلك ستغدو مجرد نصر معنوي محض لن يحدث تغييراً جوهرياً في بقاء السودان مرتهناً للأجندة الأمريكية، ما لم يُصحب باستعادة الحصانة السيادية للسودان بتشريع قانوني يحميه من الخضوع لأي مطالبات بتعويضات مستقبلية لأن ذلك يعني ببساطة أن القيمة العملية للشطب من لائحة الإرهاب المفترض أنها بوابة تطبيع علاقات السودان مع النظام المالي العالمي ستقع تحت رحمة أية أحكام قضائية ملزمة بأية تعويضات مستقبلية لضحايا 11 سبتمبر.
وهوما نبهت “نيويورك تايمز” لتبعاته بأنه “بدون الحصانة التي يوافق عليها الكونقرس، قد يتردد المستثمرون الأجانب في التعامل مع السودان خشية أن ينتهي بهم الأمر إلى تمويل مليارات الدولارات كتعويضات لضحايا الإرهاب”. وخلصت الصحيفة إلى ما هو معلوم بالضرورة من أنه “من دون الاستثمار الأجنبي، ليس لدى الحكومة الانتقالية في السودان أمل كبير في انتشال بلادها من الفقر المنتشر وعدم الاستقرار”.
(4)
هل في هذا المشهد الضبابي المضطرب ما يدعو للعجب؟، بالطبع لا شيء مستغرب، ولكنها نتيجة منطقية متوقعة بالنظر إلى الممارسة “العشوائية” التي أديرت بها أهم تحديات السياسة الخارجية للسودان في الأشهر الماضية، في غياب أهم ركن في هذا الصدد فشلت ترويكا الانتقال في إنجازه حتى اليوم، وهو ما قررته الوثيقة الدستورية في البند 13 ضمن مهام الفترة الانتقالية “وضع سياسة خارجية متوازنة تحقق المصالح الوطنية العليا للدولة وتعمل على تأسيس علاقات السودان الخارجية وبنائها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة بما يحفظظ سيادة البلاد وأمنها وحدودها”، وفي غياب سياسة خارجية معلومة متفق عليها بين الأطرف المعنية وفق قواعد دستورية مؤسسية، جرى اختطاف سياسة البلاد الخارجية يتحّكم فيها من يستطيع فرض إرادته وفق تصوراته وأجندته الذاتية ويعتبرها بالضرورة متطابقة ومصالح البلاد العليا دون دليل حتى انتهينا إلى إعلان اتفاق غامض لم تُعرف له حتى اليوم صفة مؤسسية ولا دستورية، وسط تنازع وإدعاءات بلا سند حتى شهدنا موقعة “عطاء من لا يملك لمن لا يستحق”، وما درى الجميع أنه لا أحد أصلاً يملك شيئاً ليعطي أو يمنع.