سقطت الاشتراكية في أقصى الأرض: أكان سقطنا غنينا

0 34

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

لولا عمود في الواشنطن تايمز بقلم فلاديمير موزا لما عرفت الاحتفالات القائمة في الذكرى المئوية لميلاد العالم السوفيتي أندري ساخروف (مايو ١٩٢١). وتجري ذكرى الرجل في عواصم غربية عديدة إلا موسكو التي حظرت الحكومة فيه معرضاً مرتباً للمناسبة. وكما قال موزا أن كيف لموسكو أن تحتفل بمنشق معارض بينما يقبع ألكسي نافلني، الذي خططت الحكومة الروسية لقتله ورهين السجن حالياً، وتخضع البلد لبوتين ضابط الكي جي بي الذي أذاق ساخروف صنوف الأذى.
واستوقفني ذكر الرجل لأنني لا أعرف من ساهم في القضاء على دولة السوفيات، التي محضناها ثقتنا، مثله. فقاد سخاروف حملة الانشقاق على الحكومة السوفيتية بشجاعة منقطعة النظير. وأدار معارضته من موقع الجاه في الدولة. فهو أب القنبلة الهيدروجينية السوفيتية وأصغر عالم ينُتخب للأكاديمية العلمية السوفيتية. وقال موزا إن سخاروف يحمل على صدره نياشين أكثر عدداً من تلك التي بطرف ليونيد برجنيف زعيم الحزب الشيوعي. وكان يرتديها جميعاً حين يغشى المحاكمات المنعقدة لمعارضين لا يمسه أحد. وبلغ سخاروف من الجاه أن النظام صبر عليه اثني عشر عاماً قبل أن يتنمر عليه. لكنه ضاق به ذرعاً أخيراً فحدد اقامته في مدينة جوركي المحظور دخول الأجانب فيها. وغيرت الدولة ما بعد السوفيتية اسم المدينة إلى نزهني نوقورود.
لم يله سخاروف الجاه عن قضية الحرية التي أرقه تغييبها في بلده. بل كان ذلك الجاه سببه ليستشعر المسؤولية تجاه النضال لأجلها حتى لا يقع الناس في براثن الأساطير الجمعية. فكتب “أفكار عن التقدم والتعايش السلمي وحرية الفكر” (١٩٦٨). وجرى طبعه سراً في تقليد نشر معارض ما عرف ب ” سامزدات”. وبالطبع انتبه الغرب لهذا المقاوم من الباطن واستنفر ملكاته كلها لإذاعة سيرته ونضالاته بما في ذلك منحه جائزة نوبل في ١٩٧٥. ولم تأذن له السلطات بالسفر لتسلم الجائزة. فألقيت كلمته نيابة عنه. وراحت تستنفر النقابات للاحتجاج عليه في الصحف كمعاد للسوفيات. وأزرت به في الموسوعة السوفيتية بقولها إنه طلق العلم طلاق تلاتة.
ما سبب اهتمامي بهذه الذكرى؟ لم أكن سعيداً، كشيوعي، بمثل الأخبار التي تردنا عن “اضطهاد” السوفيات للمنشقين أمثال سخاروف، وباسترناك مؤلف “دكتور زيفاجو”، والاكسندر سولجنستين. مؤلف “القولاق”. فنشأت في باكر صباي على أن الكاتب عضو غير سعيد في الحزب والعكس. فبنيهما توتر لا ينبغي أن ينتهي سيك سيك إلى المدابرة طالما اعترفنا بحرج المسألة. وكنت في باكر ماركسيتي قرأت كتاباً للأمريكي هوارد فاست عنوانه “الكاتب والحزب الشيوعي” حكى فيه عن متاعبه في الحزب الشيوعي الأمريكي حتى خرج عليه. بل وقرأت كتاباً ممتعاً من نشر المخابرات الأمريكية هو “الإله الذي هوى” عن مفارقة كتاب ذوي خطر للحزب الشيوعي في بلادهم. ومنم كاتبي الإيطالي المفضل إقنازيو سليوني صاحب “الخبز والنبيذ”.
لم ننم في حزبنا تقليد أن نستقل بنقدنا لمثل تلك التجاوزات السوفيتية مع أننا ربما كان أشد الأحزاب استقلالاً من جهة خطنا السياسي. ولكن وقفت عن كثب على متاعب بعض المبدعين السوفيات في زيارة للاتحاد السوفياتي في ١٩٦٧ بصحبة محمد المهدي مجذوب الذي لا تقيده لا قريش ولا السوفييت دون ما يرى. فوفرت لنا طلاقته أن نزور بعض الكتاب والفنانين ممن خرجوا لتوهم من اضطهاد الستالينية. منهم رسام لا ذكر اسمه الآن والشاعرة أخمدولينا. وكتبت عن لقائنا بهما في مجلة “الحياة” بعنوان “إسباسيبا موسكو”. وكان تدريباً في القرب من محنة الإبداع في الدولة السوفيتية أعانني على التمسك بحرية الكاتب في حزبنا كما فعلت بفرض نشر تقويمي المتعاطف لصلاح أحمد إبراهيم في جريدة الميدان بعد كجار. بل جرؤنا في وقت لاحق للاحتجاج على أستاذنا عبد الحالق محجوب تأييد الحزب للغزو السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا.

لست أعرف إن كان انهيار التجربة الاشتراكية مما يسعد به أحد. فمهما قلنا عنها فهي محاولة استثنائية للأخذ “الحرفي” بقضية العدالة الاجتماعية. وهي قضية باقية وتتجنبها النيوليبرللزم في عصر “نهاية التاريخ” باستئناس الفقر وجعله مما يعالج خارج اقتصاد مخطط كما نرى حتى في بلادنا منذ مجيء الإنقاذ. فالفقر لآن قدر ونلطف من تعويقه ببرامج البر والتقوى. من جهة أخرى عَبّرت مرات عن أن التجربة السوفيتية والصينية في الاشتراكية كانت جهاداً للتحديث الذي لهث الروس والصينيون في سكته منذ القرن التاسع عشر بلا نتيجة. فانتهزتا سانحة الماركسية لتعبيئة موارد البلد والشعب لبناء الدولة الحديثة على صورة الغرب. لا أقول هذا عنهم من باب المخاتلة ولكن من باب أن تصاريف التاريخ ما في اليد. وهذا حديث يطول.
قارن كاتب بين الماركسية والنازية مما اشتهرا بالتوحش. وقال مهما يكن ففرص الماركسية أن تنفض عنها الغبار وترجع للمسرح كبيرةة لأنها نهضت من فوق نبل إنساني. أما النازية فلا مستقبل لها كما نرى إلا عند المتنطعين لأنها شر محض.
سعادة بعض الناس بسقوط الاشتراكية في أقصى الأرض تذكرني بححاية صديق في جامعة الخرطوم. كان يتلقى إعانة من جامعة الخرطوم خلال دراسته. وسقط في الامتحان في عام ما. فانقطعت الإعانة. فذهب للمرحوم على مصطفي، مشرف شؤون الطلاب، يستفسر الخبر. فقال له على إن من شروط الإعانة ألا تسقط. فمتى سقطت راحت عليك. فقال الصديق:
-يا أستاذ علي إن كان سقطنا غنينا.
سقطنا في الاشتراكية ولكن هل غنيتم!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.