شرذَمةُ المُشرْذَم، فماذا بقي من “المبادرة”؟!

0 42

كتب: د. خالد التيجاني النور

.

(1)
لو تسنى لجدران قاعة الصداقة أن تنطق، لضربت كفاً بكفٍ عجباً لما شهدته طوال عقود من تدوير الأزمة الوطنية السودانية في الحلقة المفرغة ذاتها، تتبدل الأنظمة ظاهراً، وتتغير الوجوه شكلاً، وتعلو الشعارات المجانية، وتبقى الذهنية المأزومة ذاتها حاضرة تدور في حلقة مفرغة، وفي احتفالات عبثية لا تنتهي بتوقيع اتفاقات يظن، من لم يقرأ التاريخ ولا يعي الحاضر، أنها ستكون العصا التي سوف تلتقم سحرة السيرك السياسي، ثم لا يلبث أن تستبين عوار تلك البيانات السياسية الجوفاء التي لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به، ويتفرق الشمل، حتى يظهر سحرة آخرون على المسرح، وما من عبارة أبلغ في توصيف وتشخيص هذه الحالة السياسية المرضية من ترجمة الأستاذ بشير محمد سعيد لعنوان كتاب مولانا أبيل ألير (التمادي في نقض العهود والمواثيق)، حتى أفاق السودانيون على تقسيم بلدهم، وسيكلف الاستمرار في هذا التمادي ما بقي من البلد التي “تكاثرت زعازعها وانتقصت أوتادها” في مقولة الدكتور منصور خالد.
(2)
لا يحتاج المرء إلى الذهاب بعيداً لضرب الأمثال، لا سيما في عهد النظام السابق حتى استحق السودان أن يوصف بسلة اتفاقات العالم الموقعة مع ثلة من غالب طوائف هذا التحالف الجديد القديم، ولاستحقت قاعد الصداقة أن تدرج في موسوعة غينيس من كثرة الاتفاقات السياسية التي شهدتها، ولم ير لها السودان طحيناً مع علو جعجعتها، ولو كان الأمر كذلك لما كانت هناك حاجة لتوقيع المزيد من بيانات لم تثبت يوماً لأي واحد منها جدوى لها، ودعنا من القديم، ألم تشهد قاعة الصداقة في مثل هذا الأيام قبل عامين فقط ما يستحق وصف “التحالف السياسي الأوسع في تاريخ السودان” كما كان يُعرّف عند توقيع الاتفاق السياسي مع المجلس العسكري الانتقالي، ثم الوثيقة الدستورية، فأنظر، يا هداك الله، ما الذي حلّ بهما حتى قبل أن يكتمل حولهما، لم تجب المجموعات التي وقعت على اتفاق الأربعاء الماضي على السؤال الأهم، لماذا لم يحقق ذلك الالتفاف العريض حول الوثيقة الدستورية أهداف واستحقاقات ومهام الانتقال كما ينبغي لها، وما الذي جعلها وحدتها تتفكك وتتفرق أيدي سبأ، وما الذي يضطرها لتوقيع اتفاق آخر، وما الذي يجعل مزاعمها تصدق هذه المرة، هل يكفي القول كما ورد في بيانها إدراكها لأهمية “وحدتنا” دون تحديد المسؤولية وأسباب تفتيت قوى الحرية والتغيير في المقام الأول.
(3)
بيد أن ثالثة الأثافي ليست هي قصة التوقيع على بيان آخر فحسب، مكرراً الأسطوانة المشروخة ذاتها لتحالفات تكتيكية قصيرة النظر بائسة المردود، بل في دلالة الخطوة والتوقيت ودور من أقدموا عليها، فمن المعلوم أن الآلية التي أعلنها عنها السيّد رئيس الوزراء بشأن مبادرته حول “الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال – الطريق إلى الأمام” تهيمن على عضويتها، والأهم من ذلك تسيطر على إدارتها، العناصر نفسها التي تتصدر تحالف “قحت الأخرى” الوليد، ولنتعرف على ماذا يعني ذلك، دعونا نعود إلى “مبادرة حمدوك” فلحمتها وسداها إقرار الشخصية التنفيذية الأعلى في سلطة الانتقال بأن البلاد “تشهد أزمة وطنية شاملة بسبب غياب مشروع وطني يحظى بإجماع كافٍ” يحقق التحول المدني الديمقراطي، مشدّداً على أن الوجه الجديد للأزمة لا يشكل خطراً على الانتقال فحسب بل خطراً وجودياً على الدولة السودانية ذاتها، وعزا ذلك إلى تصاعد الخلافات بين شركاء الانتقال على الصعيدين المدني والعسكري، والانقسامات داخل “الكتلة الانتقالية”، وعدم وجود تصور مشترك لأجندة الانتقال وألوياته وإدارته.
(4)
وخلص السيد رئيس الوزراء إلى أن الأساس المفتاحي في معالجة هذه المهدّدات الوجودية للسودان تكمن في تحقيق تسوية سياسية شاملة توحّد الكتلة الانتقالية لأكبر مدى للقيام بأمر المعالجات الجذرية لما يليها من مسائل لا تعدو أن تكون ذات طابع فني أو إجرائي.
وجاءت آلية المبادرة، على ما اعتور تشكيلها من عيوب هيكيلية، بافتراض أن تقود هذا الحوار السياسي الواسع النطاق لتوسيع قاعدة الانتقال بقوى ذات وزن وكسب اجتماعي وسياسي، ولتخلص إلى تشكيل هذه الكتلة الوطنية العريضة المساندة للتغيير، ولكن ما الذي حدث؟.
(5)
جاء تركيب الآلية مختلاً منذ البداية حين عهد بزمامها لفريق هو طرف في الصراع الراهن، وبالتالي هو أحد أسباب التشتت في قاعدة الانتقال، وكان الظن أنها سترتفع لمستوى المسؤولية الوطنية وتتجاوز أجندتها الذاتية والحزبية الضيقة لتقدم نموذجاً في الاستجابة لمطلب مبادرة رئيس الوزراء الجوهري بضرورة تمتين قاعدة الانتقال وتوسيعها، فإذا بهذه المجموعة التي هيمنت على الآلية، ضيقت واسعاً، ولم تطق صبراً لشهرين على الأقل هي أجل مهمتها، لتقول إنها بذلت ما في وسعها بجدية لتحقيق أكبر قدر من الإجماع حولها، ولكنها بدلاً على ذلك أثرت أن تضرب بالمبادرة وآليتها عرض الحائط، ولم تحتمل الانخراط في حوار جدي ولا لأسبوع واحد، بل سارعت بلا أدنى وازع لروح ومقتضى المبادرة لتشرذم ما هو مشرذم أصلاً، ولتنصب نفسها من طرف واحد “حاضنة وقاعدة وحيدة للانتقال”، ولذلك بدا مستغرباً مشاركة السيد رئيس الوزراء في مناسبة أطلقت رصاصة الرحمة على مبادرته وآليتها، فماذا بقي منها وقد ذهب أهم مطلب لها أدراج الرياح؟.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.