كتب: عصام يوسف همة
.
الشرعية التي نحن بصددها في هذا المقال هي شرعية الحكم والتفويض الممنوح للسلطة السياسية والاجتماعية لممارسة الحكم و تمثيل ألشعب. التعريف الاكاديمي يحددها بأنها تفويض جمعي collective لفرد او مؤسسة للقيام بفعل معين إنابة عن المفوضين بعد قبولهم .
بتمعن النظر في مصادر شرعية الحكومة الانتقالية في السودان، نجد أن تراكم نضال جماهير الشعب السوداني و بأس قوي المقاومة المسلحة والمدنية ضد نظام الإنقاذ الذي نتج عن إنقلاب الجبهة الاسلامية القومية علي الحكومة في ٣٠ يونيو ١٩٨٩، هذا التراكم النضالي توج بحراك ١٩ ديسمبر ٢٠١٨ الذي أفضى الي إنهاء حكم المؤتمر الوطني المستنسخ من الجبهة الإسلامية في ١١ ابريل ٢٠١٩، ومهد الطريق لتكوين الحكومة الانتقالية الآنية. إذًا مصدر الشرعية الأولي (primary) للحكومة الانتقالية هو شرعية الجماهير وإصطفاف قطاع واسع من الجماهير خلف العملية الانتقالية و دعمهم لها.
إلا أن هناك مصدر خفي لشرعية الحكومة الانتقالية غير محتفل به، و هو القوة العارية و بطش الآلة العسكرية الذي تمظهر في دور ال guard dogs كلاب حراسة نظام الموتمر الوطني في إسقاط حكمه والتظاهر بانحيازها لخيارات الشارع المنتفض.
اذا الحكومة الانتقالية وجودياً تنتصب علي ساقين، الساق الاولي هي اصطفاف الجماهير و سطوة الشارع والساق الثانية هي مشاركة و دعم ال guard dogs كلاب الحراسة في الآلة العسكرية، هنا يمكن الزعم بقوة إن المصادر الاولية لشرعية الحكومة الانتقالية متضادة، و بالضرورة انتجت ثنائية المكون المدني والعسكري في عملية تأسيس الحكومة الانتقالية، و قد رأينا وضوح و تمظهر التضاد بين المكونين في مجازر فض إعتصام القيادة العامة في الخرطوم وبقية ولايات السودان، و كذلك شهدنا ضراوة الحراك الجماهيري في الإضراب العام ومواكب المقاومة والاعتصامات اللاحقة.
بالإضافة لشرعية التراكم النضالي لحراك الجماهير و مشاركة و دعم او سمه “انحياز” ال guard dogs كلاب الحراسة في الالة العسكرية، تمتعت الحكومة الانتقالية بدعم كاف من القوي الإقليمية إفريقياً وعربيًا و مساندة المجتمع الدولي ممثلاً في الاتحاد الاوروبي، الولايات المتحدة الأمريكية، وكالات الأمم المتحدة و مجلس الامن الدولي.
مربط فرس الشرعية هو تمثيل الاغلبية و العمل علي إنجاز المصلحة العامة الجمعية، و في حالة شرعية الحكومة الانتقالية السودانية نجدها تتمثل في مصالح الجماهير والتي تتم عبر تحقيق الحرية السياسة، إنهاء الحرب و تحقبق السلام والتأسيس للعدالة القانونية والاجتماعية و بالتأكيد السيطرة علي غول الأزمة الآقتصادية، كل تلك الأجندة كانت من محركات الحراك الجماهيري الذي أوجد السلطة الانتقالية.
إذًا لماذا تعثرت الحكومة الانتقالية في الايفاء بالتزاماتها تجاه الجماهير و فشلت حتى في إنجاز هياكلها السياسية حسب الجدوال الزمنية للوثيقة الدستورية؟
تعثر الحكومة الانتقالية في إدارة ملفات الانتقال يمكن ان يرد الي ان شرعية الحكومة الانتقالية تتآكل طرديًا مع انهماكها في سياسة “رزق اليوم باليوم” و إغفالها او عدم قدرتها على التصدي عمليًا و أستراتيجياً لمأزق شرعيتها.
تعددت تحديات شرعية الحكومة الانتقالية، الا ان ابرزها هو انهاء الحرب و تحقيق السلام، هذا المأزق جاء مبكرًا و حتي قبل تكوين الحكومة الانتقالية وذلك عندما خرجت قوي الكفاح المسلح من تحالف قوي إعلان الحرية و التغيير (قحت) مما ترتب عليه إبعاد تلك القوي من المشاركة في صياغة مشروع الانتقال والاستعاضة عن ذلك بالدخول في عملية تفاوض عقيمة بين طرفين ساهما في إسقاط نظام المؤتمر الوطني. و نظريًا يشتركون في نفس الاهداف و الدوافع السياسية حول بناء سودان حر، متعدد و محكوم ديمقراطيًا.
و من الحسم بمكان ان نشير الي أن الحكومة الانتقالية لا تمتلك تفويض او حافز للدخول في حرب مع اي مكون من قوى الكفاح المسلح وهذا الحكم بعينه ينطبق علي قوى الكفاح المسلح.. ولم يكن مستغربًا ان نري تنازع مجلسي الوزراء و السيادة علي “ملف السلام” من جهةٍ الحكومة الانتقالية، الشي الذي كشف هشاشة الشراكة بين مكونات الحكومة، ذلك في مقابل تعدد محاور قوى الكفاح المسلح و رفض بعضها الانضمام الى طاولة التفاوض مطلقا.
إذًا اطار التفاوض في جوبا لم يصمم ليسع غير إشراك قوي الكفاح المسلح المتفاوضة في الحكومة الانتقالية و لا يمكن باي حال ان يتصدى لأجندة الصراع الاجتماعي في السودان أو يؤدى إلي سلام مستدام مهما كان الموقعون على مخرجات التفاوض. بالأحرف الاولى في ٣١ أغسطس ٢٠٢٠م وبالتوقيع النهائي في الثالث من أكتوبر .
على الرغم من المجهود الجبار للمتفاوضين و الوسطاء في جوبا ، لم يلتفت احد إلي النتيجة الحتمية للتفاوض في مسارات اعتباطية و متناقضة و هي إنتاج اتفاق جزئي يفتقد ليس فقط للاجماع حوله بل لاليات التنفيذ و المراقبة.
المثير للقلق، انه في خضم حمى الاحتفال بالسلام تنسى الحكومة الانتقالية أن اتفاق تقاسم السلطة و الثروة في جوبا يصفر reset و يلغي عامًا كاملاً من الفترة الانتقالية، يزيد ترهل الحكومة ومعدلات الإنفاق، كل ذلك بدون تفويض (mandate) واضح، و هذا لا محالة يضرب في عمق شرعية الحكومة الانتقالية.
بالإضافة الى ان الاطار الزمني لإدماج و تسريح قوات حركات الكفاح الموقعة علي الإتفاق هو خمس سنوات، اي بعد أنتهاء الفترة الانتقالية بعد تعديلها و ذاك الاطار الزمني قابلًا للتمديد إلي ما وراء ذلك.
و ثالثة الاثافي ان وزير دفاع الحكومة الانتقالية يعتقد ان تعدد و تطاول الحروب في السودان كان “بدون اسباب واضحة” و ان عملية دمج قوات الكفاح المسلح و تسريحها ستكون كفيلة بوضع حد للصراع المسلح في البلاد.
إذًا نحن في مواجهة حكومة انتقالية تفتك بشرعيتها بنفسها و تسير و عيونها جاحظة الاغماض في حقول الغام الانتقال .