شعب خمجان ولكن فنان
كتب: جعفر عباس
.
والخمجان هو الذي لا يتقيد بالأصول المتعارف عليها عند أداء مهمة ما مهما كانت بساطتها، أي أنه يؤدي الشيء بعقلية “زي ما تجي تجي”، فنحن قوم نجمع بين التوكل والتواكل، ولا نتقيد حكومة وشعبا بمقتضيات التخطيط، ربما لأننا مهذبون ولا نستسيغ كلمة تنتهي ب”طيط”، تماما كما أننا من فرط التهذيب لا نخرج ألسنتنا عند نطق الثاء والذال فنقول الاستسمار وليس الاستثمار ونقول تهزيب وليس تهذيب.
ولاية الخرطوم بدأت حملة ضخمة إبادة نواقل الأمراض أمس الأحد 4 أكتوبر، ولا تعرف لماذا لم تبدأ الحملة قبل أسبوع او عشرة أيام، ونحن نعيش في بيئة سمحت بتناسل بلايين الذباب والناموس منذ أكثر من شهر، بينما الفاصل بين التخطيط لفض اعتصام القيادة العامة للتخلص من البشر، والتنفيذ كان ثلاثة أيام!!!!!! ربما كان ذلك لمنح تلك الحشرات فرصة الهجرة الى ولاية أخرى، ولكن اتضح ان جميع الولايات ال”فيها يكفيها”، وربما لأننا قوم متصالحون مع الباكتيريا والجراثيم والفيروسات، أنظر الى الكورونا التي ما زالت تصطاد الآلاف يوميا في أمريكا وبريطانيا والهند، بينما اختفت من خارطتنا باختفاء وزير الصحة السابق د. أكرم التوم من المشهد، ويقال إنها ما زالت موجودة بكثرة ولكنها قامت بتطبيع العلاقات مع الناس بعد ان فشلت في تخويفهم وترويعهم، فمهما تعالت الإنذارات بأن الكورونا خطر داهم، تجاهلها الناس بل خرج أنصار حكومة الكيزان يهتفون “ما في كورونا ما تغشونا” فقالت الكورونا: ما عندي قعاد في البلد دي، تماما كما فعل ابليس وشوهد وهو يغادر السودان قبل أكثر من 15 سنة فسألوه لماذا تغادر وسوقك هو حار؟ فأجاب: هؤلاء ناكرون للجميل فكلما ساعدتهم على السرقة وصاروا أغنياء قالوا: هذا من فضل ربي. (كان الرئيس الأمريكي ترامب يستخف بالكورونا حتى أثبت الفحص قبل أيام ان إصابته بالكورونا موجبة، وبهذا يكون اسم ترامب قد ارتبط لأول مرة بشيء “إيجابي”).
انظر طريقتنا في الأكل الجماعي كي تدرك كيف ان الجراثيم متعاطفة معنا: صحن ام رقيقة فيه قطع كسرة عائمة في بيت عزاء، وتنزل فيه عشرة أيدي وتتلامس الأصابع في قلب الصحن، وبانقراض محتوياته قد يقوم أحدهم بتمرير اصبع دائر ما يدور حول الصحن لتنظيفه ثم يلحس ذلك الإصبع حاملا دي إن إيه DNA الأصابع الأخرى، ولو تناول هولنديون او طليان الاكل جماعيا بتلك الطريقة لما بقي منهم نفاخ النار، وشخصيا لا استطيع تناول الطعام الا في جماعة، ولهذا توقفت عن تناول وجبة الإفطار منذ ان غادرت السودان، ومهما صاح الطبيب بأن إفطار الصباح هو اهم وجبة، فإنني اصيح فيه: “كضابة”، فالغداء أهم وجبة لأن معظم افراد العائلة يتناولونها سويا.
وعلى سوء الأوضاع المالية في بلادنا فإننا نتفنن في فبركة المناسبات كي نغني ونرقص و”نكشف”: زواج او ختان او شراء سيارة او بناء بيت او تخرج طفل من الروضة بمرتبة الشرف، بل صارت طقوس العزاء في الموتى عند أثرياء الغفلة ضربا من الاحتفال: صيوانات ومكيفات هواء ووجبات خمس نجوم، ولكن حتى عند الفقراء لا تخلو مراسيم تقبل العزاء من شطط ولو كان على “قد الحال”، فتكون ميتة وخراب ديار.
كل هذا الخمج والسير في الدروب العوج، وأوضاعنا من سيء لأزفت، وما زلنا نغني ونرقص ونضحك ونتسامر ونسمي تبادل الأخبار الصحيحة والمفبركة عن الآخرين في جلسات الأنس “شمار” وهي تسمية جميلة لأن ذلك النوع من الونسة هو الذي أدى الى تطور اللغات البشرية قبل عشرات الآلاف من السنين، وقاد من ثم الى تشكيل المجتمعات الصغيرة فالكبيرة.
(اترك للقارئ هامشا ليأتي بما عنده من دلائل الخمج)