صندوق الشرق: هو شويه مش موجود
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
أصدر حزب مؤتمر البجا بتاريخ ٢٦ أغسطس ٢٠٢١ بياناً عن صندوق الشرق يكاد فيه المريب أن يقول لا تأخذوني. وهو الصندوق الذي أنشئ لتنمية الشرق في ٢٠٠٧ بمقتضى اتفاق أسمرا (٢٠٠٦) بين حكومة البشير وجبهة الشرق المكونة من مؤتمر البجا بقيادة موسى محمد أحمد وحركة الأسود الحرة لمبروك سليم مبروك التي عمادها شعب الرشايدة. وتكفلت بالتزاماته المالية حكومة السودان ودولة الكويت.
فدغمس البيان الحقائق التي اكتنفت الصندوق تحت ظل دولة الإنقاذ وفي الحكومة الانتقالية، وخلط بين اتفاق مسار الشرق في اتفاقية جوبا للسلام وما شاب التصرفات المالية في الصندوق من دخن، وأرهب بصريح العبارة كلا من يريد أن يفتش عن الفساد الذي فاح من الصندوق منذ قيامه.
نسب البيان الإجراءات التي انتهت إلى حل الصندوق بيد محمد الطاهر أيلا، رئيس الوزراء في إبريل ٢٠١٨، إلى حزب مؤتمر البجا. فقال البيان إن الحزب هو الذي أرغم النظام البائد على مراجعة مهنية للصندوق وخلص منها إلى تقرير ضاف “عن الأداء مع تقويم فني من قبل لجان فنية من كل شركاء الصندوق حرصاً على المال العام مكتسبات الإقليم”.
لربما كان حزب مؤتمر البجا من ضغط على الإنقاذ لتقوم بما ذكره. ولكن ما ترتب على التحقيق الذي نشأ من ذلك الضغط لمختلف جدا. فلم تنته المراجعة إلى التقرير المسيخ الذي وصفه البيان وكفى. ففي واقع الأمر انتهى التحقيق إلى ما هو أغلظ من ذلك. ففي إبريل ٢٠١٨ نحى رئيس الوزراء محمد طاهر إيلا مدير الصندوق أبو عبيدة دج ونائبه نافع إبراهيم، وحل الصندوق نفسه دون أن يبدي الأسباب. ولا أعرف مقالاً احتفل بذلك الحل في قوة كلمة لمحمد عبد القادر في جريدة الرأي العام. فقال إن حل الصندوق جاء في إطار “إغلاق مواسير تسريب المال العام، وضبط الأداء المؤسسي، وإنهاء الأجسام الموازية للدولة”. وأوفد إيلا بعثات من وزارة المالية لقفل حسابات الصندوق، وحصر مقاره لتصفيته ورد أصوله لديوان الحكم الاتحادي. واحتج على تلك الإجراءات موسى محمد أحمد مساعد رئيس الجمهورية والولي على الصندوق ونترك التفاصيل.
وجاء بيان مؤتمر البجا برواية طلس عن إجراءات بدأت الحكومة الانتقالية في اتخاذها للتحقيق حول الصندوق. فقال إنه جاءت للصندوق لجنة مكونة من بعض الجهات الرسمية. وقال إنهم أحسنوا استقبالها، وفتحوا لها قلوبهم، وتهيأوا لتوفير مطلوباتها من الملفات، واستصحابها إلى مواقع عمائر الصندوق. ولكنها سعادة لم تتم لأنهم سرعان ما اكتشفوا أنها لجنة سياسية بامتياز. ولم يسم البيان هذه اللجنة بل جعلها لجنة حكومية بصورة مطلقة، وإن كان قوله عن اللجنة أنها “سياسية” مما تعودناه يطلق على لجنة تفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩. وتأسس مطلب حراك ترك بحل هذه اللجنة على أنها لجنة سياسية كما هو معلوم.
وجاء البيان بتفاصيل عن هذه اللجنة الحكومية تنضح مكراً. فأراد بهذه التفاصيل أن يربط بين اللجنة ومسار الشرق في اتفاق جوبا. ومعلوم أن المسار، الذي هو من مكائد الجبهة الثورية، استبعد ترك وشعبه من الهدندوة في حين استأثر به تنظيم الأمين داؤود الذي قاعدته في شعب البني عامر. وانتهز ناس داؤود ، الذين باتوا على تظلم شديد من استبعاد الصندوق لهم، سانحة استئثارهم بالمسار ليضمنوا اتفاق الشرق مادة عن وجوب مراجعة الصندوق، وهيكلته، وتمثيل كل أطراف الشرق في مجلس إدارته.
لم نمل من القول إن اتفاق مسار الشرق خراقة سياسية من الدرك الأسفل. ونتفق مع حراك ترك في هذه قلباً وقالباً. ولكن أن يُجسر بيان حزب مؤتمر البجا ما بين مقاصد أهل المسار وحيلهم والصندوق فهذا عيب. وتجد البيان هنا أفصح عن تكوين اللجنة ليقيم حجته أن الصندوق مستهدف من المسار لا غير. فقال إنه وضحت لهم أن اللجنة التي جاءتهم ورحبوا بها حرصاً منهم على الشفافية هي لجنة سياسية هدفت لتمرير مآرب مسار الشرق على الصندوق. فكان عليها وكيل وزارة الحكم الاتحادي “وأحد مفاوضي الجبهة الثورية راعية المسار المشؤوم”.
هذا الربط الذي أقامه البيان بين المسار والصندوق مما أراد به تحصين صندوق الشرق المعيب من المساءلة. فإن أنت تطرقت لعيب فيه فأنت سياسي تحت خدمة مسار الشرق. فخلا الصندوق بهذا الربط الماكر من كل عيب لأن كل عيب تأخذه عليه هو من كيد الجبهة الثورية. وهذا تحصين مستحيل لصندوق أزكمت رائحة فساده لا نظام الإنقاذ، الذي بات فيه الفساد وقيل فحسب، بل دفع رجلاً من الشرق نفسه هو إيلا لكي يغلق أبوابه بالضبة والمفتاح.
سنتجاوز عن تهديد البيان بالويل والثبور لكل من تسول له نفسه بمس الصندوق بمساءلة. ونختم بطرفة عن دغمسة البيان. فقال البيان إن مراجعة الصندوق اسفرت عن “*إقالة مؤقتة” لمدير الصندوق. وهذه ضلالة لأنه إيلالم يفصل المدير فصلاً ناجزاً فحسب، بل جرى حل صندوقه ذاته. وذكرتني “مؤقتة” هذه بفكاهة رواها دوقلاس نيوبولد، السكرتير الإداري للحاكم العام حتى وفاته في ١٩٤٥. قال إنه كان يوزع حواشات مشروع طوكر الزراعي. فنادي أحدهم من الهدندوة ليقابله فلم يجده. فسأل أدروباً من أهله عنه. فقال:
-هو شويه مش موجود.
فالمدير هو شوية مش مفصول.
هامش:
نحتفل بعد غد بالذكرى الرابعة والتسعين لميلاد أستاذنا عبد الخالق محجوب. ووكت الكلام جاب الكلام قرأت في كتاب عن المرحوم الجزولي سعيد، سكرتير الحزب الشيوعي السياسي في منطقة القاش في الخمسينات، أن أستاذنا بعث ببرقية تحية وتضامن إلى أول اجتماع لمؤتمر البجا في أكتوبر ١٩٥٨. وجاء في الكتاب أنه لما تليت البرقية “استقبلها المؤتمرون بالتصفيق الحاد”. وكان الجزولي سعيد عضوا مستحقاً في المؤتمر اعترافاً بخدماته للمنطقة.