صورة من قرب هارب من (كوبر) ومُطارد من (لاهاي).. الإخواني أحمد هارون: ظهور العرجاء في (بطة) الجيش السوداني
عبدالجليل سليمان
في مدينة كسلا، كبرى مدن شرق السودان على الحدود الإرتيرية، وإحدى أقدم وأشهر المدن السودانية، يمتلك الجيش قاعة للمؤتمرات معروفة بقاعة (بطة)، التأم فيها الأسبوع المنصرم أخطر اجتماع ضم سياسيين وعسكريين ومتطرفين إسلاميين ومتهمين بقضايا فساد، على رأسهم آخر رئيس بالوكالة لحزب الإخوان المسلمين المعروف بالمؤتمر الوطني، والذي كان معتقلاً في سجن (كوبر) الشهير بمدينة الخرطوم بحري منذ سقوط النظام إلى أن أطلق سراحه بعد نحو (10) أيام من بداية الحرب الراهنة التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 نيسان (أبريل).
ظهور البطة الإخوانية العرجاء أحمد هارون في لقاء قاعة (بطة) بمدينة كسلا، بمعية نخبة متشددة من قادة جماعة الإخوان، وقادة رفيعين من العسكريين وضباط المخابرات كان، بحسب تقارير صحفية متطابقة، من أجل الدعوة لمواصلة الحرب وحشد التأييد الشعبي لها وتجنيد المواطنين للانخراط فيها، الأمر الذي أشاع الكثير من المخاوف وقوبل بالاستنكار والإدانة على نطاق واسع.
تحت حماية الجيش
لربما لم يكن هذا اللقاء ـ رغم علانيته ـ وانعقاده في مقر مملوك للجيش ومشاركته فيه، ليكتسب كل هذه الأهمية، لولا أنّ هارون كان على رأسه، فللرجل تاريخ حافل ومشهود من الولوغ في دماء السودانيين وارتكاب جرائم متنوعة، ممّا يجعل ظهوره في هذا التوقيت داعماً لقيادة الجيش نذير شؤم عليها، ودليل إثبات على أنّها من أطلقت سراج المعتقلين السياسيين التابعين للنظام السابق والمطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب في إقليم دارفور (غرب السودان) إبّان الحرب الأهلية.
أيام أبو كرشولا
وُلد هارون في قرية أبو كرشولا بجنوب ولاية كردفان مطلع ستينيات القرن المنصرم، ونال إجازة الحقوق من جامعة القاهرة بمصر 1987، وقد التحق بجماعة الإخوان المسلمين مبكراً، وهو طالب بالمدرسة الثانوية، وتولى رئاسة اتحاد الطلاب السودانيين في مصر خلال أعوام دراسته هناك مرشحاً من قبل الطلاب المنتمين للجماعة.
بعد عودته من مصر عمل قاضياً لفترة وجيزة، ثم تفرغ للعمل التنظيمي، وشارك في انقلاب الجماعة على حكومة الصادق المهدي المُنتخبة 1989، وأوكلت إليه مهمة الإشراف على تكوين إحدى الميليشيات الإخوانية الأسوأ سمعة تحت عنوان الشرطة الشعبية، وهي (بوليس إخواني) موازٍ لمؤسسة الشرطة السودانية العريقة، وأصبح (هارون) منسقاً لها.
أفق دامٍ
من الشرطة الشعبية انطلق الرجل إلى آفاق (جهادية) أرحب، وأوغل في العنف وذاع صيته بين السودانيين كواحدٍ من كوادر الإخوان الأكثر قسوة، إذ لم يكن يتورع في ارتكاب أبشع الجرائم من أجل تثبيت أركان النظام وترسيخ أوتاده.
والشائع بين الجماعة أنّ الرئيس المخلوع يقدّر قساة القلوب ممّن لا يتورعون في فعل أيّ شيء من أجل إسناد (كُرسيِّه) وإطالة أمد جلوسه عليه، فكان هارون في المقدمة في ظلّ ظروف أمنية بالغة التعقيد تسببت بها حرب دارفور التي اندلعت عام 2003، فأسند إليه بناءً على خبرته في ميليشيا الشرطة الشعبية وعمليات التجنيد المُصاحبة، وزارة الدولة بالداخلية، فكان إقليم دارفور مسرحاً لعمله وبطشه، مستثمراً قدراته الخطابية والقانونية والتنظيمية والأمنية في تجنيد القبائل العربية ضد الحركات المتمردة في الإقليم التي تشكل القبائل الأفريقية ظهيرها الأساس ورافدها الرئيس بالمقاتلين، رغم أنّه ينتمي إليها، فهو من قبيلة البرقو الأفريقية العابرة للحدود إلى تشاد، لكن بالنسبة إلى هارون لا يعني الانتماء القبلي شيئاً، فالجماعة (خيرٌ وأبقى).
نيران هارون
أشرف هارون بجانب رئيس الاستخبارات العسكرية وقتها الفريق أول عوض ابنعوف، ومدير جهاز الأمن والمخابرات برئاسة الفريق أول صلاح قوش، على تكوين أول ميليشيا قبلية من منسوبي ما يُعرف بالقبائل العربية في دارفور، برئاسة شخص يدعى علي كوشيب، سلّم نفسه إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2020، وهي الميليشيا نفسها التي اشتُهرت بالجنجويد، وأسندت رئاستها لاحقاً إلى زعيم قبيلة المحاميد (فرع من الرزيقات) الشيخ موسى هلال ذائع الصيت.
تحت إشراف وإدارة المذكورين أعلاه، ارتكبت الميليشيا بإسناد وتغطية جوية من الجيش وجهازي الاستخبارات والأمن ما يشيب له الولدان، فقد أحرقت القرى وأتلفت المزارع وقتلت الماشية واغتصبت النساء، وتفرقت القبائل الأفريقية أيدي سبأ إلى تشاد وأفريقيا الوسطى وغيرهما من الدول هروباً من نيران (هارون) وإخوانه، إذ كان أول من أدخل في قاموس الحروب الأهلية في السودان أسلوب الإبادة الجماعية، بما في ذلك قتل الأسرى، وما يزال خطابه الشهير الموجه إلى جنود الجيش شاهداً على جرائمه وعبارة “اكسَح، امسَح، قشّوا، ما تجيبوا حي، ما عاوزين عبء إداري”، بمعنى: “اقضِ على الأعداء، امسحهم واكنسهم من على الأرض، لا تأتِ بأحد منهم حيّاً أو أسيراً، لأنّ ذلك سيمثّل عبئاً إدارياً على الدولة”، وتلك الكلمات لم تغادر آذان السودانيين.
الماسِح الكاسِح
تبدو عبارة (امسح واكسح) معبّرة عن أقصى درجات القسوة والرغبة في الانتقام والإبادة، لذلك شهد إقليم دارفور خلال حقبة هارون في وزارة الداخلية وإبّان إشرافه على الحرب هناك إحدى أبشع وأسوأ الكوارث الإنسانية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لا يرعوي هارون، ولا يرفّ له جفن أو تخيفه مذكرات اعتقال صادرة من أيّ جهة كانت، فقد شهد رئيس الوزراء السابق ورئيس حزب الأمّة القومي الراحل الصادق المهدي، عقب سقوط نظام البشير، أنّ الرجل الأكثر إصراراً وعزماً على قتل المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني من أجل الإطاحة بنظام الإخوان، من بين قادة حزبهم، كان أحمد هارون نفسه، وروى المهدي أنّ هارون أخبره بأنّه اتخذ قرار فض الاعتصام بالقوة القاهرة، لكن قبل أن ينفذ قراره سقط نظامه، ووجد نفسه في زنزانة بسجن كوبر معتقلاً بلائحة اتهامات ببنود كثيرة.
وكان هارون قد تسنم في شباط (فبراير) 2019م، أي قبل أقلّ من شهرين على سقوط نظام الإخوان، رئاسة حزب المؤتمر الوطني ومساعداً لرئيس الجمهورية.
مُنتِج الميليشيات
ويعتقد على نطاق واسع أنّ أحمد هارون، بجانب علي كرتي وزير الخارجية السابق ومؤسس ورئيس ميليشيا الدفاع الشعبي الإخوانية سيئة السمعة، هما الأبوان الروحيان لجميع ما يُعرف الآن بالميليشيات (الكيزانية المسلحة)، فقد أطلق هارون فضلاً عن الشرطة الشعبية التي انبثقت عنها (شرطة النظام العام) المتخصصة في مراقبة أزياء النساء ومعاقبة من لا تلتزم برؤية الإخوان حيالها، ما يعرف بشرطة الاحتياطي المركزي وهي ميليشيا إخوانية ذات مهام قتالية، تم استخدامها كيد باطشة في إقليم دارفور، واستولت قوات الدعم السريع على مقرها الرئيس وعتادها ومعداتها مؤخراً.
عدو حميدتي
بين قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو وأحمد هارون ما صنع الحداد، فخلافتهما كانت ملء السمع والبصر قبل سقوط النظام بأعوام، حيث صرح حميدتي في مقابلة مع قناة (سودانية 24) بأنّ هارون مكانه السجن وليس والياً على ولاية شمال كردفان، لكنّ الرئيس المخلوع تمكّن من التوسط بينهما وإنهاء الخلاف.
في عام 2005 سُمّي هارون زيراً للدولة بوزارة الشؤون الإنسانية، فسخّر الإغاثة التي تتبرع بها المنظمات المحلية والدولية من أجل النازحين جراء حرب دارفور وجيّرها لصالح إمداد ميليشيات الإخوان، وسدر في غيّه القديم، حتى بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في 3 أيار (مايو) 2007 مذكرة توقيف دولية بحقه، بجانب قائد الجنجويد وقتها، علي كوشيب – الذي يحاكم حالياً في لاهاي- لينضما إلى عمر البشير، ووزير الدفاع السابق عبد الرحيم محمد حسين.
وتسببت الانتهاكات الواسعة التي كان لهارون السهم الأكبر فيها، بمقتل نحو (300) ألف ونزوح (2.5) مليون شخص في إقليم دارفور، الأمر الذي جعل المحكمة الدولية تطلب هارون للمثول لديها بلائحة تتضمن (42) تهمة تشمل القتل والاغتصاب والتعذيب والاضطهاد والنهب.
سراح مُطلق
الآن، وبعد إطلاق سراحه من سجن كوبر، ورسالته الصوتية التي بثها مباشرة يعلن خلالها دعم حزبه للجيش، وجولته الأخيرة بالتنسيق مع قيادات عسكرية وأمنية من أجل تجنيد سكان شرق السودان والدفع بهم إلى الحرب، يبدو أنّ تنسيقاً مبكراً جرى بين قيادة الجيش وجماعة الإخوان المسلمين لإشعال الحرب الماثلة، وأنّ من أطلق سراح أركان النظام السابق، وبينهم متهمون بارتكاب جرائم إبادة جماعية وعلى رأسهم هارون، كانت قيادة الجيش نفسها، وإلّا فالسؤال يظل قائماً؛ لماذا توفر لهم الحماية ولا تجرؤ على اعتقالهم، وهم يجوبون شرق السودان الواقع تحت سيطرة الجيش تماماً؟