عالم في براثن الإستبداد : لماذا كنا الإستثناء المضرج؟
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
التقيت بزميلي الدكتور جونسان سبيربر، مؤلف “ماركس: ترجمته” الأشهر مؤخراً في التعريف بالرجل والذي تناقلته اللغات، في حفل بشعبة التاريخ بجامعة ميسوري. وتطرقنا لثورة السودان. وتصادف أن اجتمعنا معاً في طائرة كانت وجهته سياتل واشنطن ووجهتي دنفر كولورادو. قال لي إنه مدعو لتقديم محاضرة عن ثورة ١٩١٧ البلشفية بمناسبة مرور قرن عليها. قلت له: وأنا مدعو لتقديم محاضرة عن ثورة أكتوبر السودانية للجالية السودانية. وأضفت: ما اختلفنا. هذه من تلك. وضحكنا.
قال لي سبيربر في الحفل إنه بدا له أننا في السودان حالة استثنائية (exceptional). فبينما يرتكب العالم طريق الحكم الأوتوقراطي على أيامنا نجدكم تسيرون عكس التيار ترفعون للديمقراطية راية “هم خلوها فوق السارية متكية”. والأخيرة مني بالطبع.
وصدق المؤرخ الذرب. والردة عن الديمقراطية هي شاغل علم السياسة والعلاقات الدولية على أيامنا هذه. فلأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة تناقصت الدول التي تتبنى الديمقراطية (١٨) لتزيد الدول المخاصمة لها (٣٣). وبلغ الأرق بهذه الردة مبلغاً عقد به الرئيس بايدن “قمة للديمقراطية” قبل أيام ربما الأولى من نوعها. وكان صرح أول حلوله في سدة الرئاسة أين وفيهم سيء الذكر فكتور أوربان رئيس هنغاريا بالذات، والمحافظون الرجعيون حماة التقاليد الوطنية المزعومة. وخصا بالذكر توالد هؤلاء الحكام الأوتوقراطيون في حمأة الفساد الذي أثروا منه بتحويل سطوتهم كحكام إلى ثروات. واستغلوا حرية حركة رأس المال العالمي لدس مالهم السحت في مخابئ مصرفية غربية مما يسهر الصحفيون الاستقصائيون على كشف من ورائه ومساربه في “أوراق بندورا” التي بدأت النشر على الملأ منذ نحو ٣ شهور.
قال العالمان إن المدافعين عن الديمقراطية الآن في حالة يرثى لها انتقلوا من خانة الهجوم للدفاع. ومن سخرية القدر أن تكون أمريكا هي ميدان للدفاع عن الديمقراطية في عقر دارها لا في غيرها من بلاد الله كما كان العهد، أو الزعم. فتنعقد منذ شهرين أو نحوه لجنة التحريات في “تمرد” أنصار الرئيس ترمب في ٦ يناير ٢٠٢٠ واقتحامهم الفظ حرم الديمقراطية: الكونغرس. ويتكشف الأمر كل يوم أن ذلك “التمرد” (ويسميه أصحابه ثورة أي “insurrection”) كان مفردة في خطة انقلابية كاملة الأركان تداولتها حاشية ترمب لإلغاء نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٢٠. فقد تواثقوا على إعلان للطوارئ حفظاً للأمن القومي، وإلغاء التصويت الإلكتروني، ووضع يدهم على أوراق الاقتراع لتمكين ترمب من إعلان نفسه رئيساً للمرة الثانية. وكشفت مساءلات لقائد القوات المسلحة عن مساعيه لتأمين تداول السلطة دون الانقلاب بإجراءات تحوطية بتفاهمات مع الصينين عن أن أمرهم على ما يرام. وتأقلمت أمريكا الآن مع مصطلح الأوتوقراطية. فسأل أحدهم مستشاراً لترمب على الملأ إن كان انقلابا مثل ما وقع في مانيمار مما يُنتظر في أمريكا لإلغاء انتخابات بايدن المخجوجة.
لماذا كنا في السودان هذا الاستثناء عن القاعدة؟
لي آراء أذعتها هنا عن خوضنا القاسي المضرج عكس تيار الأوتوقراطية الآخذ برقاب العالمين. ولكني أترك خاطرة سبيربر المؤرخ لتنضج على نار هادئة عند القارئ.