عبد الخالق محجوب: ليلة وعرة بين حي العرب وحي السيد المكي (١-٢)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
فصل من رواية عن سيرته في ذكرى ميلاده الثالث والتسعين
(أنشر هنا جزء من الفصل الأول من روايتي “الرجل الوسيم” فيها سيرة أستاذنا عبد الخالق محجوب. وأنبني الفصل على واقعة من طفولة عبد الخالق احتج فيها علي حبوبته آمنة بت علي فور في حي العرب وغادر دارها مغاضباً إلي بيت أسرته في السيد المكي. ولأن هـذه السيرة رواية تجدني أطلقت عنان خيالي من فوق مادة عن حياته توافرت لي عن بحث عنها لعقود ثلاثة. وكنت نشرت من قبل فصلاً عن زواجه علي هذا الغرار)
عادت آمنة بت علي فور تحمل الفطير باللبن الدافئ المقنن عشاء أحفادها المفضلة. وكثيراً ما قالت لنفسها إنه ربما كان جودة فطيرها باللبن هو ما يأتي بعثمان أكبرهم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معها. وما وضعت كورة العشاء بينهم حتى افتقدت عبد الخالق. فسألت:
-عثمان أخوك وينو؟
-ما شفتو
-يا بت يا آمنة ما شفتي أخوك؟
-أبداً يا حبوبة.
-أبداً دي شنو يا بت يبتبت حيلك.
وبدأ التوتر عليها.
-عثمان أخوك يمرق من جنبك ماك عارفللو سهمة.
ولم تكمل العبارة لتصيح:
-عبد الخالق! يا عبد الخالق! يا لد.
ولا صدى. وسمعت من فوق حائط الجيران:
-حاجة آمنة مالك يا حاجه؟
-الولد دا ما عليكم. يا السرة الحبيبة؟
-ابداً صاحبو ترا مجدع من جا من تمرين الكورة العشا ما داير يقوملو.
ثم تنادي ابنها:
-الجنيد يا الجنيد قوم النائم لها. قوم شاف صاحبك.
-ما شفتو يمه. من انتهى التمرين تاني ما شفتو.
لم تمض لحظات حتى توافد الجيران من كل طرف إلى بيت حاجة آمنة. فلا يدور مثل الحوار الجازع لحاجة آمنة في هدأة ليل حي العرب ولا تبلغ رسالته الجيران. فتدافعوا بالمناكب:
-حاجة آمنة عبد الخالق مالو؟
-والله مرقت على القاطوع أجيب لوليدات محجوب العشا لقيتو ما في. وأخو وأختو الغبايا ديل ما عارفنو سلقط ملقط.
ثم صمتت. واستنفرها التضامن لتخرج أثقال الفقد:
-فليللي فلليلي يا اخواتي.
وحاصرتها الأصوات تلطف من وقع الحادث:
-يا حاجة سمى.الولد مطرططش طلع بهني واللا بهني. حيمشي يقع وين يعني. اسع يجيك راجع.
-راجع من وين يا حبان.
ثم صمتت:
-لكن نقول مشي وين مقطوع الطارئ دا. بلعتو الواطة؟
صمت.
-والله شالو جن
ثم قفزت من مجلسها صائحة مفرومة الأعصاب:
-البير. يا صافي الدين البير. إلا وقع في البير.
ومَن ممن اجتمعوا لا يعرف مركزية البير في البيت؟ فمنذ النباه الأول لصلاة الصبح تفتح آمنة طبلة باب بيتها الخشبي بالكشر فيتوافد الجيران من كل فج لنشل ماء يومهم منها. فما سمعوا ب”البير” حتى تحركوا بتلقائية نحوها إلا من ود الجحمانة الحلبي الذي قال لهم وقد تدلى فانوس النور يديه:
-لا ما البير ياحاجة. انا قصيت دربو بالفانوس ومعاي كلوت البتعاين دي. الشافع مرق بباب البيت عديل.
أخذت الحاجة نفسها.
-نقول بلعتو الواطا. تصمت.
-مقطوع الطارئ دا . والله شالو الجن. صمت.
-اصبر يا عبد الخالق والله البسويها فيك عمرك ما تنساه. ثم تمالكت نفسها ونادي:
-يا صافي الدين ما تمشو إنت والصبيان لحي السيد المكي يمكن مشى بيتو.
وتحرك صافي الدين بعد أن سلم اينه الجنيد شبه النائم لأمه. وتبعه جار أو آخر. ولما يبلغا الباب بعد حتى جاؤوا وجها لوجه مع محجوب:
-بشر يا محجوب. سلامة!
-أبشر بالخير. عبد الخالق جانا في السيد المكي. أنا نفسي انقطع خابي من هناك فد خبه عشان عارف أمي بتكون في حالتن تانية.
وما سمعت آمنة صوت محجوب عند الباب حتى نهضت بغير اكتراث لحشمة ثوبها. واقبلت عليه وحضنته بين تبريكات الجيران:
-سلامة يا حاجة. سلامة يا محجوب
وبكت عند كتف ابنها حتى بللت بالدمع ثيابه.
سألته:
-قال مالو؟ الملّه! مالو بيطلع في جنس ليل زي ده للسيد المكي.
عرف محجوب أنه لن يلقي بإجابته ويخلص. فأمه ستستعيد تاريخاً أسرياً من الغلاف إلى الغلاف متى كان الحديث عن عبد الخالق ونشاف رأسه. فليست هذه مرته الأولى التي تخرج قوة رأسه هذا التاريخ من أمه. بل وصار يستمتع بالحديث معها حول قوة رأس ولده. بل وعرف الأزرار التي يضغط عليها في منعطفات بعينها من القصة لكي يقترب من عوالمها التي ناء عنها بعض الشيء منذ تزوج ممن لم ترض ورحل من حي العرب إلى السيد المكي.
-قال رقدتيهو على فروة الصلاة فوق العنقريب.
-ما الباشا المدير عاد.
-ورقدتي عثمان أخوه فوق لحاف.
وكانت لآمنة معزة كبيرة لعثمان. كان نقطة ضعفها. فكان ميلاده مما تذرعت به لتسترد صلتها بولدها. فكانت عارضت زواجه من أم النصر بت الحسن ود حبيبة معارضة شقيت بها شقاء يعتلج ذنبه في خاطرها ما يزال. فقد رتبت لمحجوب وحيدها أن يتزوج أم الكرام ممن تعرف. ولكنه ركب رأسه وأصر إما أم النصر وإلا فلا. وقالت له لو تزوجتها لا بيني لا بينك. وجاءها يوماً ليلاً. وقال لها إنه مصمم على أم النصر، وأنها إن لم ترض منه لوقتها استمهل غضب الرب للأم عليه حتى تأذن بالعفو في يوم قريب. فاستدبرته مشيحة بوجهها عنه. فأمسك بكتفيها بقوة وبكى حتى غفر الله له. وبقيت ناشفة في حضنه لم تتجاوب بشيء سوى من تحسس عينه اليسرى لتلمس وخط دمعاته عليها. وما كاد ينصرف محجوب حتى أجهشت ببكاء لم تفق منه حتى غلبها النعاس. وكان ذلك آخر ما بينها وبين ولدها وعرسه حتى ميلاد عثمان الذي كان مناسبة انعقد بها طقس اجتماعها بولدها وزوجته وحفيدها.
كانت كلما احتضنت محجوب وجدت يدها تمتد إلى عينه اليسرى. كان ذلك منها لا إرادياً. وبدا لها بمثابة طلب خفي حثيث للعفو منه.