عبد الخالق محجوب والبرجوازية الصغيرة: لا نجوت إذ نجت
كتب د. عبد الله علي إبراهيم:
كانت ثورة 1924، متى نظرنا لقواها الطبقية لا العرقية كما ساد في النظر إليها في العقود الأخيرة، بمثابة تدشين لمطلب البرجوازية الصغيرة، صفوة الكسب، لتحل محل الأعيان، صفوة الإرث. وكانت حجتها أنها استحقت قيادة السودانيين ببينة تعليمها الذي طبعها على سوء ظن فاحش بالأعيان ممن رأتهم عنواناً لتخلفنا والحائل دوننا ورحاب الحداثة التي أوصانا بها المستعمرون.
ولا أعرف من سبق إلى تشخيص أزمة هذه الطبقة مثل محمد هاشم عوض، الأكاديمي والوزير، وفي وقت باكر في 1968باستقدامه لمفهوم “البلوتكرسي” إلى طاولة البحث. والمصطلح إغريقي لحكم الأثرياء الوراثي في بلد ما. ودولة الإرث هذه ما ساد في النظم البرلمانية عندنا وحال دون البرجوازية الصغيرة وسدة الحكم لتطلق العنان لمشروعها الحداثي. ووصف محمد هاشم عوض الحكم في بلدنا بالبلوتكرسي من خلال تحليل اقتصادي واجتماعي نير. فنظر إلى عنصر الإرث ومؤسساته في الجماعة الدينية والعشائرية الحزبية محللاً منازل أهل الحكم عندنا في المجالس النيابية شمل فيها المجلس الاستشاري لشمال السودان (1944)، والجمعية التشريعية (1948)، والبرلمان الأول (1954-1958). فوجدنا دولة للأغنياء سادوا جَامعين تليد النفوذ القبلي والطائفي إلى طريف الجاه والمال.
واتسمت حياة هذه البرجوازية الصغيرةبالضجر والمغامرة وهي تصطدم بالغلبة الطائفية . ولا أعرف مثل مثل الشاعر محمد المهدي المجذوب من صور ألمعيتها الهضيمة في مجتمع يسوده أهل الإرث قاطعاً طريقهم للريادة بقوله “نحن في مسألة الحكم بين نارين: جهل الطائفية وعصبية الهاربين من ذكائهم، وبين الاثنين تحالف غير مكتوب”. أما مغامرتها فتجسدت في تبنيها، بمختلف ألوانها السياسة أو الإيدلوجية والمهنية، خطة الانقلاب العسكري (أو الحركات المسلحة في غير مركز الحكومة) لكسر ظهر الكيان الإرثي السياسي. فلا سبيل لصغار البرجوازيين، وهم خلو من النفر والغزارة، للتخلص من طبقة الإرث بالطريق البرلماني الليبرالي. ورأيناهم ينجحون في ذلك بالانقلاب في 1969 وفي 1989 ويفشلون في غيرهما من انقلابات وقعت في حمى منافسة أجنحتها للسلطان دون الطبقة الحظية الإرثية. ومتى تمكنت بالانقلاب في ظل دولتي نميري والبشير هدت حيل هذا الكيان بالتأميم ودك حصون دوائر الإرثيين المالية والزراعية.
كنت من بين من استمعوا جيداً، وعن كثب، لفهم أستاذنا عبد الخالق محجوب للصراع الذي دار في حزبه قبل وبعد انقلاب 1969 وحول التكتيك الانقلابي بصورة رئيسية. وكان من رأيه أن حزبه كان آنذاك في بلاء شديد مع البرجوازية الصغيرة الغفيرة في البلد نافذة السلطان وفي الحزب إلى حد كبير. ومن رأيه أنه، متى صمد الحزب لهذا الابتلاء وخرج منه، وبأقل الخسائر الممكنة، برؤية للتغيير كنشاط جماهيري من الجذور، تحول إلى حزب للكادحين حقاً في القلوب التي بين الصدور لا على مستوى الشعار فحسب.
عَرَّف عبد الخالق محجوب الصراع داخل الحزب، الذي بدأ في اعقاب ثورة 1964م وبلغ أشده بعد انقلاب مايو 1969م وخلاله، بأنه صراع بين أيديولوجية البرجوازية الصغيرة والماركسية. وعبد الخالق مؤرخ مدقق في الصراع داخل حزبه. وقد اقتنع بأن نمو الحزب يقع من خلال الفرز و”التطهير الطبقي”. ففي كتابه “لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني 1987م” أذاع فكرة عمدة في الماركسية هي أن الحزب نفسه لا تخلو صفوفه من خصوم للطبقة العاملة. ومن وجهة النظر هذه فإن أي مواجهة بين إيديولوجية الطبقة العاملة وبين غيرها من الإيديولوجيات الغريبة عنها تنقي معدنه وجوهره البروليتاري وتصقلهما في خاتمة الأمر.
في رأي عبد الخالق أنه أزفت في آخر الستينات من القرن الماضي ساعة رسم الخط الفاصل بين منهج الطبقة العاملة ومنهج البرجوازية الصغيرة في الثورة السودانية. وهذا ما يمكن تسميته بقانون نمو الحزب. ولخصه عبد الخالق في كتابه لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي (1960 طبعة 1987) بقوله إن الصراع الداخلي في الحزب منذ أول نزاع وقع فيه عام 1947، أي بعد عام من تأسيسه في 1946، لم يكن أمراً معزولاً عما يتدافع حوله أهل مجتمعنا من مصالح وغايات، بل كان باستمرار “جزءاً من صراع الطبقات” في السودان. وزاد ب”أن كل صراع في داخل حزبنا ما هو إلا انعكاس للصراع الطبقي خارجه”. وكل اتجاه مناف للماركسية فيه “ما هو إلا انعكاس لفكر طبقة خاصة أو دائرة اجتماعية معينة” وأن على الحزب في حرب المصالح الغريبة عن مصلحة الطبقة العاملة فيه، أي الانتهازية، ألا يجتث جذور أفكارها فحسب بل ظلال تلك الأفكار. ومن جهة البرجوازية الصغيرة قال عبد الخالق إن حزبه، مثله مثل كل حزب في بلد كالسودان، غاص بأفكار البرجوازية الصغيرة من المزارعين المتوسطين وصغار الموظفين والتجار والحرفيين. وسبيله لحرب الجمود، الذي تتصف به أفكار هذه الفئة في المنعطفات الحرجة، أن يسمي االأشياء بأسمائها “وأن يعتبر كل صراع داخلي جزءاً من صراع الطبقات. وبهذا الفهم الماركسي وحده يحافظ على نقائه وأن يقي أعضاءه من مزالق الجمود والانهيار.
ولم يكتشف عبد الخالق عاهة البرجوازية الصغيرة فجاءة في حمى آخر ستينات القرن الماضي. فقد كان شاغل عبد الخالق أبداً تربية الحزب بفطرة المستضعفين وأدبهم لئلا يكون حزباً صفوياً برجوازياً صغيراً أو كبيراً. ونضرب لهذه التربية مثلاً بما كتبه في إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير (1963 طبعة 2001) الذي ربما كان المحاولة التربوية المنهجية الأولى التي سعت لفرز ما للشيوعي مما للبرجوازي الصغير. وحمل عبد الخالق في هذا السياق على تقعر الشيوعيين وتبرجهم بالنظرية بين الجماهير ورده للأصل البرجوازي الصغير. فطلب من الشيوعيين مراعاة حتى حق الناس في الأنس الاجتماعي كيف شاءوا لا يفرضون عليهم كلام السياسة ظناً أن ذلك من الثورية بينما هو في الواقع “ثورية الفوضى والبرجوازية الصغيرة.
وتوسع عبد الخالق في نظرته للصراع في الحزب كدراما نزاع بين منهج سواد الناس ومنهج البرجوازية في الماركسية وقضايا الثورة السودانية، تقرير المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي في 1967. ففي هذه الوثيقة أرخ عبد الخالق لصعود البرجوازية الصغيرة كقوة مستقلة على مسرح السياسة السودانية في معرض تحليله للظروف التي أقعدت الحزب دون استقبال فترة ما بعد سقوط نظام عبود، التي بدأ في تحديد معالمها منذ 1961، بالهمة المرجوة. فقد سادت الحزب الاتجاهات اليسارية في الأداء السياسي خلال مقاومته لنظام عبود فأنهكته. وبلغ من قوة هذه الاتجاهات أن واجه انقساماً في خريف 1964 قبيل ثورة أكتوبر بأسابيع قليلة. وهو انقسام “القيادة الثورية” التي كونها أحمد شامي ويوسف عبد المجيد عضوا مركزية الحزب. وبشرت هذه القيادة بأن لا طريق للقضاء على نظام الفريق عبود إلا بالثورة المسلحة على نهج الثورة الصينية. فأضاع الحزب المٌبتَلى بالوهن من جراء كل ذلك فرصة أن يكون هو القيادة الجامعة المانعة لثورة إعادة الديمقراطية كما كان ينشد. وبالنتيجة أخذت سدة هذه القيادة قوى مثقفي البرجوازية الصغيرة المنتظمين في جهاز الدولة بقدرتهم على الحركة المباشرة وعلى النطاق الوطني. وبرغم دور الحزب في تكوين جبهة الهيئات التي قوامها المهنيون والنقابيون، التي قادت الثورة حتى انتكست، وهو يغالب الضعف إلا أن بروز هذه الجبهة “كان في قاعه يعبر عن تطلع الأقسام التي تقدمت الإضراب (مثقفو البرجوازية الصغيرة) لإيجاد قيادة تعبر عن مطامحهم. كان (بروز هذه الجبهة) يعبر عن حقيقة أن هذه الأقسام (من المجتمع) لم تكن ترى موضوعياً في تنظيمات الطبقة العاملة معبراً عن أمانيها”.