عبد الكريم الكابلي: سُلَّمٌ تعليميٌّ متكامل (1 – 4)
كتب: د. النور حمد
.
من الناس من تمتلئ بحبهم، والإعجاب بهم، بحيث لا تبقى لديك مساحة تسع التعبير عن حبك لهم، وإعجابك بهم، فتقف حائرا، شبه مشلول، لا تدري ماذا تفعل، خاصةً، حين يرحلون. من بين هؤلاء، المتفرِّد، صناجة الغناء، الذي لا يُجارى، عبد الكريم الكابلي. ظللت أتساءل، منذ سماعي خبر رحيله الموجع: هل في وسعي، حقا، أن أكتب عن هذا المبدع الاستثنائي، شيئا يليق به، كواحدٍ من أكبر أعلام الغناء في السودان، وبالمكانة الكبيرة التي يحتلها في عقلي ووجداني؟ تساءلت رغم أنني أعلم أن عليَّ أن أكتب عنه. فأنا مَدينٌ له في بلورة تكويني الوجداني، بالكثير. هذا فضلا عن أواصر الصداقة والمودة، التي ربطت بيننا، مؤخرا، وهو في خواتيم سنوات عمره العامرة، المثمرة.
عرفت، وعشقت، عبد الكريم الكابلي، وأنا صبيٌّ في المرحلة المتوسطة. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فقد جلب اجترار شريط ذكرياتي مع الكابلي، ذكرى العطلات الصيفية، في قرى الجزيرة، حين ينتصف النهار، ويشتد القيظ، وتلوذ الدواب بالظلال الشحيحة، ملتصقة بالحيطان. حينها، لا يكون للمرء أنيسٌ سوى المذياع. تحتضنه وتسرح معه، فيجيئك صوت الكابلي، الشجي، الطري، الندي، ليخرجك مما أنت غارق فيه من سآمات القرية، وخواء نهاراتها، وقيظ وسكون ظهيرتها المدارية الكئيبة. فيدخلك، غصبا عنك، في نعيم رياضٍ غنَّاء، متخيَّلَةٍ فواحةِ العبير. ملاذٌ متوهَّمٌ كـ “حديقة الخيال”، التي حكى عنها الفيتوري. كانت كلمات الكابلي، وصوته، وألحانه، بالنسبة لي، واحدة من أطواق النجاة من للج الفراغ، وانعدام المحفز الوجداني، في البيئة القروية الراكدة. وقد كان ذلك في زمنٍ مضى، لم تعرف فيه القرى نعمة الكهرباء، بعد.
يا لتلكم الأزمان الرائقة، اليانعة! كنا رهطًا من أبناء حلة حمد الترابي، نأتي إلى القرية من داخلية مدرسة أبو عشر الوسطى، في عطلة نهاية الأسبوع، لنلوذ بأحضان أمهاتنا، لمدة يوم، وبعض يوم. وفي صبيحة السبت، تودعنا الأمهات دامعات، فنسير لمسافة أربع كيلومترات على أرجلنا، صوب محطة السكة الحديد المسماة ود الترابي، لنستقل قطار “الكليتون” الصباحي. تفصل بين محطة ود الترابي و”سندة” مستشفى أبو عشر، حيث موقع مدرستنا، حوالي العشرين كيلومترا. زمانها، لم يكن طريق الخرطوم مدني السريع، قد شُيِّد بعد. وكان الكليتون هو وسيلة التنقل بين مدني والخرطوم، وسائر قرى الجزيرة، ومدنها الصغيرة، الواقعة على هذا الخط، كالمعيلق، والكاملين، والحصاحيصا، والمسلمية. في واحدةٍ من تلك الرحلات القصيرة، التي لا تستغرق أكثر من نصف الساعة، بين ود الترابي وأبو عشر، انطبع الكابلي في ذاكرتي وذائقتي الغضة، وبقي بها إلى يومنا هذا. كان الزمان خريفا، وريفا؛ حسَّا ومعنى. وكان سهل الجزيرة المنبسط مفعمًا بالخضرة. ومع نسيم الحقول المنبعث من نافذة القطار، وطقطقات إيقاع عجلات القطار الرتيبة، كانت أغنية “سكر سكر”، بإيقاعها الراقص، تنبعث من راديو ترانزيستور، كان يحمله أحد الركاب. يبدو من هيئته، أنه واحدٌ من موظفي المدن. تلك لحظة يندمج فيها الصوت، والصورة، واللحن والإيقاع، فينصبا في ذائقة الصبا الغضة، فتنطبع اللحظة الاستاطيقية في الوجدان، ولا تخرج منه أبد الآبدين.
تعلقت بالكابلي عبر أغنيات بداياته الأولى. وليس للكابلي بداية أولى، بالمعنى المتعارف عليه. فهو قد ولد بأسنانه؛ شاعرًا، وملحِّنًا، ومغنيا، ناضجا، مكتملا. ولقد اختلطت منذ بداياته الأولى، في انتاجه اللافت، الأغاني الخفيفة، بالأعمال الكبيرة. فكانت، من أعماله الخفيفة، على سبيل المثال، “أمير” التي أشرت إليها سلفا، و”الكل يوم معانا”، و”ما بنخاصمك”، و”زينة وعاجباني”. وفي جانب الأعمال الكبيرة، كانت “أوبريت مروي”، و”آسيا وإفريقيا”، و”أي صوت زار بالأمس خيالي”، التي تسميها مكتبة الإذاعة، “فتاة اليوم والغد”، و”أوبريت المولد”، وشعار برنامج التعاون، الذي صاغ شعره الشاعر صديق مدثر، وقام بتلحينه عازف الكمان، الأستاذ عبد الله عربي. وغير هذه وتلك، من الأغاني في الفئتين اللتين ضمتا الأغاني الخفيفة، من جهة، والأعمال الكبيرة، من الجهة الأخرى. ولست هنا بصدد الحديث عن فروق التأليف الموسيقى في الفئتين؛ من حيث تعدد النقلات الموسيقية، ونمط الايقاعات، وطبيعة الجمل الموسيقية، لأن هذا من شأن الاختصاصيين من الموسيقيين. أما أنا الذي بصدده، هو أن الكابلي مثَّل، بالنسبة لي، سُلَّمًا تعليميًا متكاملا. تدرجت فيه من المرحلة الابتدائية، عبر المتوسطة والثانوية، وصولا إلى الجامعة، وما بعدها. فلكل واحدٍ، وواحدةٍ، منا، أساتذةٌ غير رسميين، يعلموننا، ويربوننا، ويهذبوننا، ويصقلون ذائقاتا، وينغِّمون دواخلنا، من غير أن نتنبه إليهم. من هؤلاء، وعلى رأسهم، عبد الكريم الكابلي، الذي تعرفت عليه وأنا طفل، ثم، صبيٌّ، ثم، شابٌ، ثم، كهلٌ، ثم، شيخُ، ولم أستغن عن مدده الثر في أي يوم، حتى هذه اللحظة. وما أخالني بمستغنى عنه، حتى ألحق به، بعد عمر مديد، كعمره، بإذن الله.
لكن، هل يا ترى، انحصرت فئات، وأنماط، غناء الكابلي في هذي وتلك؟ لا والله، ولا كرامة. لقد كان الكابلي مبدعًا متنوع المشارب، واسع الخيال، جم الثقافة، متوقد الوجدان، فاره الموهبة، وكان مدركًا، منذ بداياته الأولى، لأبعاد مشروعه الثقافي، والفكري، والشعري، والغنائي. يُضاف إلى ذلك أنه نذر نفسه، بالكامل، لذلك المشروع. فأنجز فيه، على مدى ستين عامًا، لم يتوقف فيها لحظة واحدة عن تجاوز نفسه، عددًا كبيرًا جدًا من الأعمال الغنائية المُبْهِرة، التي حملت بصمته الشخصية، التي لا تشابهها بصمةٌ أخرى.
عقب ثورة أكتوبر بعامين، تركنا أبو عشر الوسطى، وداخليتها ومستشفاها الريفي العتيق، ومكاتب ريِّها، وجنائنها، وسوقها، “وبف نفس” قطاراتها الغادية الرائحة”، و”رزيم” صدرها، الذي لا ينقطع بجوار مدرستنا، الوادعة، ذائعة الصيت، حينها. أكملنا فيها أعوامنا الأربعة، واتجهنا، كما فعل سابقونا، صوب حنتوب الجميلة. وكان الكابلي معنا، يصحبنا في خواطرنا الطرية، وقد ارتفعت في فورة مراهقتنا، حينها، حساسية الانفعال بترميزات وتعبيرات “الرومانس”، مما تحمله الكلمة الشعرية، واللحن. ومع ازدياد المعرفة باللغة وبالأدب في حنتوب “الهادي آدم”، أخذنا نتذوق الكابلي في سمته الجديد، وهو يتجلى في أغاني الفصحى، مثال: رائعة توفيق صالح جبريل، “كسلا”، ورائعة الحسين الحسن، “إني أعتذر”، ورائعة العقاد، “شذا زهر”.
لن أنسى تلك اللحظة الفارقة، في ذلك الخميس البعيد، في نهايات عقد الستينات، من القرن الماضي، ونحن عائدين من سينما الجزيرة في مدينة ودمدني، متجهين إلى المرفأ على حافة النهر لنستقل، كالعادة، في أيام الخميس، “البنطون” إلى الضفة الأخرى، حيث تقع المدرسة. كانت إدارة المدرسة لا تسمح لنا بمغادرة الداخلية، وعبور النهر إلى مدينة ود مدني، على الضفة المقابلة، إلا مرة كل أسبوعين، وبإذنٍ مسبقٍ من مفتش الداخلية. في طريقنا من سينما الجزيرة، في عتمة الليل، ونحن في طريقنا إلى المشرع، مررنا بجوار مسرح الجزيرة. كان هناك حفلٌ جماهيريٌّ للكابلي. لحظة مرورنا بجانب المسرح، سمعنا من فوق أسواره العالية، عبر مايكروفوناته القوية، بداية إيقاع أغنية كسلا، المشتق من إيقاع “عشرة بلدي”، ثم دخول عبد اللطيف خضر، “ود الحاوي”، بصولو المقدمة على آلة الأكورديون. يا الله! لكم أسر مسمعي ذلك الصولو. ولربما يكفي أن أقول إن ذلك الصولو، أو “الصولة” هي ما دفعتني دفعًا لكي أتعلم، بعد فترة وجيزة، العزف على آلة الأكورديون. كنت عضوا في جمعية الموسيقى، لكن لم تكن بالمدرسة، حينها، آلة أكورديون. غير أن أستاذنا عبد الله بولا، عليه الرحمة والمغفرة، جلب لنفسه أكورديون صغير (أوكتافين). فأخذت أستلفه منه وأذهب به الى حافة الجنائن، الفاصلة بين المدرسة والنهر، بعيدًا عن الداخليات. فتعلُّم الأكورديون وسط الناس مزعجٌ للغاية. فالأكورديون آلة عالية الصوت. كما أن من يتعلم، سماعيًا، يكرر كثيرًا، ويحدث كثيرًا من النشاز. بعد أن عرفت بدايات العزف، اجتهدت لأنفذ تلك الصولو، التي كنت لا أنفك أسمعها تُعاد، مرة بعد أخرى، من المذياع. لكنني عجزت، وخرجت بعد محاولات كثيرة، امتدت لأسابيع، بصورة كروكية لها. كنت أتساءل كيف يخرج عبد اللطيف خضر، تلك التفاصيل، والذبذبات، والتأوهات، التي اتسمت بها تلك الصولو. ثم، بعد عامٍ، أو يزيد، اقتنت جمعية الموسيقى، ولأول مرة، أكورديون ماركة Parrot (ثلاثة أوكتافات)، مع محولات صوت. حينها خرج الكابلي برائعة عبد العزيز جمال الدين “لو تصدق”، فأدخلني الكابلي، بذلك اللحن، وتلك الكلمات، مرحلةً جديدةً، في سلمه التعليمي، غير الرسمي، المتكامل، المبذول للجميع. وتلك صدقةٌ جاريةٌ سوف لا تنفك تصب في ميزان حسانته، إلى يوم يبعثون. لقد كانت “لو تصدق” فتحًا كبيرًا في كلمات الشعر الغنائي، وفي الألحان.
عقب انقلاب مايو 1969 شكلنا في حنتوب تنظيم طلائع الهدهد، بعونٍ من رابطة الكتاب والفنانين التقدميين “أبادماك”، التي كانت قد نشأت، حينها، في الخرطوم. قمنا في عطلة صيف 1969، بقافلةٍ ثقافية، طافت خمسًا وعشرين مدينةً صغيرةً وقرية، في عموم الجزيرة، قدمنا عبرها للأهالي، المسرحيات، والاسكتشات الفكاهية، والأغاني. وكانت أغنية “لو تصدق”، واسطة العقد فيما قدمنا من أغاني. ومرةً أخرى، تعود صولو الأكورديون في “لو تصدق”، في ثوب أكثر جدة وتأثيرا، فتتردد في مقدمة الأغنية، بضع مرات. وكانت نكهة تلك الصولو تختلف باختلاف العازفين، ولربما كانت مرَّةً بأنامل عبد اللطيف خضر، ومرة أخرى بأنامل الفاتح الهادي، ومرة ثالثة بأنامل سليمان أكرت. لقد كان الكابلي ينمو باضطراد، وكنا ننمو معه، مع فارق المسافة الكبيرة الفاصلة بيننا وبينه. وهذا بعضٌ مما قصدته بقولي: إن الكابلي كان سُلَّمًا تعليميًا متكاملاً، بقي مفتوحا للجميع.
(يتواصل)