عبد الكريم الكابلي: سُلَّمٌ تعليميٌّ متكامل (3 -4)
كتب: د. النور حمد
.
لم يتحرك مطرب سوداني في مساحةٍ بعرض المساحة التي تحرك فيها عبد الكريم الكابلي، من حيث فئة الأغنية، ولونيتها، وإيقاعها، ولحنها. استخدم الكابلي إيقاعاتٍ متنوعةً جدا. وطرق مواضيع مختلفة، وألف ألحانًا متباينة في طابعها. غير أنها جميعها حملت بصمته الخاصة، التي ميزته، بوضوح شديد، عن غيره. كان الكابلي أكثر جيل العمالقة تلحينا للأغاني المكتوبة باللغة الفصحى. ولو أخذنا من فئة العمالقة الكبار ثلاثةً، مثال: عثمان حسين، ومحمد وردي، ومحمد الأمين، لوجدنا أن الكابلي هو صاحب القدر الأكبر في تلحين وغناء شعر الفصحى. لحَّن الكابلي، من قصائد الشعراء السودانيين، مما أذكر، “إني أعتذر”، للحسين الحسن، ولحَّن له أيضا، “طائر الهوى”. ولحَّن لشقيق الشاعر، الحسين الحسن، تاج السر الحسن، “آسيا وإفريقيا”. ولحَّن لعبد المجيد حاج الأمين، نشيد الجامعة، الذي يقول مطلعه، “هبت الخرطوم في جنح الدجى”. ولحَّن لحسن عباس صبحي “ماذا يكون حبيبتي”. ولحن رثاء “سلمى”، التي يقول مطلعها، “أنا أبكيك للذكرى”، ولا يحضرني شاعر هذه الأغنية. ولحَّن لصديق مدثر، “ضنين الوعد”. كما أنشد للناصر قريب الله درته المميزة، “أم بادر”، وللعباسي، “أرقت من طول هم بات يعروني”. وهذا فقط مما علق بذهني من قصائد الفصحى السودانية التي انتقاها، ولحنها، وقام بأدائها.
أما في الشعر العربي القديم، فقد لحَّن لأبي فراس الحمداني، “أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبر”، وللمتنبي، “مالنا كلنا جَوِيٍ يا رسولُ”. كما لحن ليزيد بن معاوية، “نالت على يدها ما لم تنله يدي”. ولحَّن في الشعر العربي الحديث، لعلي محمود طه المهندس، “الجندول وكليوباترا”، ولحَّن لعباس محمود العقاد، “شذى زهر ولا زهر”. ولو تأملنا اختياره لقصائد شعر الفصحى؛ السوداني، والآخر العربي، مما جرت كتابته خارج السودان، في القديم، وفي الحديث، لدلَّنا ذلك على ذائقته الشعرية الرفيعة. لا يُلحِّن الكابلي غثَّ الكلام، ولا مُعتادَه، وبُدَهِيَّه، وفَجَّه، سواءً جرت كتابته بالعامية، أو بالفصحى. لقد كان ينتقى أجوده وأكثره تأثيرًا في “دوزنة” وتنغيم وجدان مستمعه. وعلى ذات النسق يسير الكابلي حين يكتب الشعر الغنائي العامي بنفسه، ليلحِّنه، ويغنيه. وهذا باب فريد أشار إليه فيه، الدكتور، عبد الله علي إبراهيم، في كلمته عنه، التي نشرها عنه قبل أسبوع، تقريبا. ولسوف تكون لي وقفهٌ قصيرةٌ مع الطابع الفريد للشعر الغنائي الذي نظمه الكابلي بنفسه، وهو كثير. فهو ذو نَفَسٍ، ونكهةٍ، ونمطٍ فريد.
تميز الكابلي، أيضًا، على أقرانه، من جيل العمالقة، بغناء شعر الحماسة الشعبي، على إيقاع الدلوكة. فقد غني، “فرتيقة أم لُبوس لُوِّيْعَة الفرسان”، وغني “خالد ما ليك تنين”، وغنى “خال فاطنة”، كما تغنى ب “الزول السمح فات الكبار والقدرو”، وغنَّى مختلف مسادير البادية، مما لا يحضرني الآن. ولا غرابة، فقد كان الكابلي باحثًا واسع الإلمام بالتراث. وأهم من ذلك، كان ذوَّاقةً، رفيع الذوق، يعرف كيف ينتقي من التراث السوداني، الريفي والبدوي، الثر، أفضل ما فيه. وهذه من ميزات الكابلي الغريبة؛ فهو من أبناء الموظفين ساكني المدن، ولربما يصح أن نصف نشأته وحال أسرته، وتجربة عيشه المدينية بـ “الإفرنجية”. غير أنه، مع ذلك، يتذوق شعر التراث البدوي، ويعرف غميس كلماته، وخفي ترميزاته وإيحاءاته. كما يعرف سير شعرائه، والثقافته الشعبية الساندة، التي تقف وراءه، وكأنه من أبناء البادية، الذين رعوا السوائم في رباها وسهولها، وصالوا، وجالوا، في عرصاتها.
غني الكابلي لعدد من كبار شعراء الأغنية العاطفية، السودانية، المكتوبة بالعامية، مثال: عوض أحمد خليفة، وعبد العزيز جمال الدين، وإسحق الحلنقي، والتجاني حاج موسى، وعبد الوهاب هلاوي، وغيرهم. غير أن بصمته الحقيقة، إنما تتجلى فيما قام بنظمه، هو، من شعر غنائي عامي. لقد أسس الكابلي، منذ بداياته الأولى، مدرسته الخاصة في نظم الشعر الغنائي. ويصعب جدًا أن يموضع المرء نظم الكابلي في شعر العامية الغنائي، فيما هو مألوف من ثيمات وأنماط التعبير، التي تتشاركها كثير من قصائد الأغنية السودانية. فأفكاره، وموضوعاته ورؤاه الشعرية، مختلفةٌ كثيرًا عن غيرها. كما أن للكابلي قاموسه الشعري، الذي يمتاز بفرادةٍ وأناقةٍ بَيِّنَتَيْن، وبتراكيب تعبيرية مبتكرة. لقد تطورت كتابة الشعر الغنائي لدى الكابلي، بصورة لافتة، عبر عقود تجربته الابداعية، التي امتدت لخمسين عاما تقريبا. فحين نتفحص نصوصًا مثل “أوبريت مروي”، و”سكر سكر”، و”الكل يوم معانا”، و”يا جار” و”زينة وعاجباني” وغيرها من نصوصه المبكرة، على جمالها ورقتها، ونقارنها بما جدَّ له في مجال الموضوع الشعري، وفي الأسلوب، تتضح لنا قفزاته المتتالية. فقد فصلت بين تلك النصوص الأولى، والنصوص اللاحقة، مسافةٌ كبيرة، من حيث ابتكار الموضوع الشعري، وقوة الشاعرية، وجودة النظم، ورقة مفردات القاموس، وجِدَّة نمط التعبير. فقصائد من شاكلة: “يا ستار علي من دورتك”، و”الليل عاد والشوق زاد”، و”مشاعر”، التي مطلعها “حسنك فاح مشاعر وعم الطيب فريقنا”، و”زمان الناس هداوة بال، وانت زمانك الترحال”، و”تاني ريدة وكمان جديدة”، و”حبك للناس”، و”شمعة”، و”يا شوق يا نغم”، وغيرهن، مما لا يحضرنني الآن، تتضح هذه القفزة الكبيرة. فهذه الفئة من نصوصه تمثل، بكل المقاييس، حالةً خاصة، قائمة بذاتها. فقد كان مبدعًا فذا، لا ينفك يتخطى نفسه، باضطراد. وما من شك لديَّ، أن تنميته الدؤوبة لقدراته، وتحديه المضطرد لنفسه، وتوسيعه المستمر لإمكاناته، أثر في ذائقة كل من عشق فنه. فقد ظللنا نَكْبُرُ معه، ثقافةً، وأدبًا، وذائقةً موسيقيةً. لقد كان الكابلي، لمن أحبه، وتعلَّق به، وتتبَّع مساره الصاعد، باستمرار، سُلَّمًا تعليميًا، متكاملاً، شديد الغنى، مبذولا للجميع، لوجه الله.
يتسم نظم الكابلي بصورٍ شعريةٍ، فريدة، فيها، أحيانًا، من الطرافة، ما يجعلك تبتسم لدى سماعها. يقول المتصوفة: “المرء مَطْوِيٌّ تحت لسانه، فتحدَّثوا، تُعرفوا”. أعني بذلك، أن قصائد الكابلي الغنائية، تعكس تكوينًا وجدانيًا متميزًا، ذا منحى صوفيا. وهو في صوفيته التي دسَّها في احترافه الغناء، متجاوز للصوفية التقليدية. فصوفية الكابلي ممتزجةٌ بثقافةٍ عصريةٍ واسعة، وبإلمامٍ ثرٍّ بمدارس الفنون، والآداب الحديثة. فأنت تجد فيها من التعبير، ما هو واقعي، وما هو انطباعي، وما هو رمزي، بل، وما هو سريالي. فمَنْ مِنْ ناظمي شعر الأغنية، خاطب المرآة الحائطية متسائلا، على هذا النحو:
كلميني يا مراية
شايفك طربانة
حكوا ليكي حكاية؟
ولا كنتي معايا؟
ولا انتي بتقري، يا ماكرة ظنوني؟
ولا شفتي الصورة، الشايلاها عيوني؟
ولا يبقى أكيد، عاداكي غنايا؟
ثم، مَنْ مِنْ ناظمي شعر الأغنية، كتب عن طلة أنثويةٍ بهيةٍ، عارضةٍ، بحُسْنٍ صاعقٍ، مثل هذا النظم:
بنور وزهور وعطور، استلم المجالْ
بصوت منساب، بنُّور، شبهو ناسْ قُلالْ
بخفة روح عصفورْ
وإبداعات خيالْ
خلا قلوبنا طيورْ، وحال أرواحنا حالْ
ثم، مَنْ مِنْ شعراء الأغنية خاطب شمعةً مشتعلة، بمثل هذا القول؟:
تسكب من حياتا النورْ
وترمز للأمل، وتدورْ
وما عارفة الأمل مسحورْ
وما قايلة المسافة دهورْ،
تكمِّل ألف شمعةْ، وشمعةْ
تسكب روحها مليون دمعةْ.
ما هذا يا ترى؟ هل هذه رمزية، أم هذه سريالية، أم شيء نسيج وحده، لا بهذا، ولا بذاك؟
تنقل الكابلي بين الغناء العاطفي الحديث، وغيره من أنماط الغناء. فقد قام، كما سلفت الإشارة، بتلحين نصوص الفصحى، ونصوص العامية. وقد نوَّع في نصوص الفصحى، بين ما أنتجه السودانيون، وما أنتجه الشعراء العرب. كما طرق بالتلحين والأداء، كما ذكرنا، أيضًا، شعر الحماسة الريفي والبدوي. ومع كل ذلك، لم ينس أن يكون له نصيبٌ معتبر في إعادة غناء قصائد شعر الحقيبة. ولقد كان له في هذا الجانب، القدر الأكبر بين مجايليه، من العمالقة، الذين أعادوا إنتاج أغنيةٍ، أو يزيد، قليلا، من أغاني الحقيبة، مثال عثمان حسين، ومحمد وردي، ومحمد الأمين. فقد نوَّع الكابلي انتقاءه من شعر الحقيبة. فقد غني لخليل فرح “ماهو عارف قدمو المفارق”، و”تم دور إدوَّر”، إضافة إلى “نحن، ونحن، الشرف الباذخ”. كما غنى لمصطفى بطران، “دمعة الشوق”. وغني لأبو صلاح، “وصف الخنتيلا”، وكذلك، غنى له، “يا من فاح طيب رياه”، وغنى لسيد عبد العزيز، “بت ملوك النيل”، التي ترنم في مقدمتها بأبيات ود الرضي القائلة: “يعاينن توبتي في كامن ضميري ويمحن”. وغنى الكابلي من شعر الحقيبة غير ذلك، مما لا استحضر الآن. أيضا، تميز الكابلي على رصفائه بغناء أغاني زملائه. وقد بدا لي، مما لمحته في تجربته الغنائية، تعلُّقُه الكبير بمحمد عوض الكريم القرشي، الأمر الذي جعله يكثر من ترديد عددٍ من أغنيات عثمان الشفيع. كما ردد، أيضًا، أغنيات حسن عطية. هذا التشعب، والاشتباك المحمود، مع تجارب الرصفاء، واحدٌ من الأمور الدالة على سعة عقل الكابلي، ورحابة وجدانه، وسلامة نفسه، وسمو روحه. إن من أميز ميز الكابلي، أنه من ذلك العيار العالي من البشر، الذين لا ينافسون رصفاءهم، وإنما ينافسون أنفسهم، وكفى بتلك مَزيَّة.
الكابلي، وما أنتج في حياته العامرة المثمرة، مثّل، بكل المقاييس، نظامًا تعليميًّا متكامل المنهج، له مراحله المختلفة. وهو نظام يرقى المتعلِّم في مراحله، مرحلةً، مرحلةً، ويجد فيه المتلقي، في كل مرحلة، عمقًا وسعةً أكبر. ولو قيل لي أذكر بعضًا من أهم من كان لهم أقوى التأثير على نموك الروحاني، والوجداني، والفكري، من السودانيين، لوضعت هؤلاء الأربعة على رأس القائمة، وهم: الأستاذ محمود محمد طه، والطيب صالح، ومحمد المكي إبراهيم، وعبد الكريم الكابلي.
(يتواصل في المقالة الأخيرة)