عبد الكريم الكابلي: سُلَّمٌ تعليميٌّ متكامل (4 – 4)
كتب: د. النور حمد
.
برحيل عبد الكريم الكابلي تنطوي، أو تكاد تنطوي، الحقبة الوسطى من حقب السودان المستقل. هذه الحقبة الوسطى أعقبت سابقتها، التي بدأت بمؤتمر الخريجين، وانتهت بالاستقلال. وقد اتسمت هذه الحقبة الوسطى التي يمكن تسميتها بـ “دولة الأفندية والعسكر”، خاصة فيما يتعلق بالفشل في بناء الدولة، وفي التنمية والاستقرار السياسي، والعجز البنيوي وبالاضطراب، بل، وبالفشل الذريع في تحقيق الوحدة الوطنية. ويوشك فشل “دولة الأفندية والعسكر” هذه، أن يوردنا، في اللحظة المفصلية الراهنة، موارد الحتوف. نسأل الله اللطف والعناية. لكن، مع ذلك، اتسمت هذه الفترة المنقضية، بإشراقٍ كبيرٍ، في مجال فن الغناء، وفي مجال الفن التشكيلي، والشعر، والصحافة، وكرة القدم. أما في مجال الغناء، فقد كان عبد الكريم الكابلي أحد أبرز أعلامها.
لخصوبة تلك الفترة أسبابها، وعلى رأسها حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي، النسبية، التي حققتها الإدارة الاستعمارية، في الفترة الممتدة بين ثورة 1924، وحتى استقلال السودان في يناير 1956. كان هناك أمنٌ شاملٌ واستقرار، وكان هناك أملٌ في المستقبل. ولعل صلاة سير دوقلاس نيوبولد من أجل السودان وأهله، التي حفظها الكابلي عن ظهر قلب، وكررها مراتٍ في لقاءاته وحفلاته، تحمل إشارة إلى فهم الكابلي للأثر الكبير لحالة الاستقرار التي رسخها البريطانيون وأثرت بقوة في مجالات الإبداع. ولقد سبق أن كتبت عن الأثر البريطاني على ازدهار ستينات القرن الماضي، في مقالتي الموسومة، “حقبة الستينات وتبديد ميراث البريطانيين”. وهي مقالة جرى نشرها في الكتاب الذي حمل عنوان: “السودان في ستينيات القرن العشرين”. وهو كتابٌ صدر عن مركز دال الثقافي، في عام 2018.
بدأ ازدهار فن الغناء عقب أفول الدولة المهدية، وانمحاق نزعتها الطهرانية المتزمتة، وانقضاء حالة الاضطراب الأمنية، الذي سادت نهاياتها. ولقد استمر فن الغناء في التفتُّق والازدهار، بقوة الدفع الأولى تلك، حتى بلغ سبعينات القرن الماضي. ومع إحكام شمولية نميري قبضتها على البلاد والعباد، وبزوغ فجر الهوس الديني، بدأ مؤشر الرسم البياني للإبداع الشعري والغنائي والتشكيلي في الانحدار، متأثرا بما أصاب الدولة. فالفنون، والآداب، وبخاصة فن الغناء، إنما تمثل المولود الشرعي لأحوال الاستقرار السياسي والاقتصادي في حياة الشعوب. ولقد كانت هذه العناصر متوفرة، بقدرٍ معقولٍ، في فترة الإدارة البريطانية للبلاد. بل، إن هذه العناصر هي ما بدأنا نفقده، تدريجيًا، بمجرد خروج المستعمر. ولم يمض عقد ونصف من الزمان، عقب الاستقلال، حتى فقدنا كل ما ورثناه من البريطانيين. وهذا، كما سلفت الإشارة، مبحثٌ بكرٌ، في سوسيولوجيا الغناء، وفي سيسيولوجيا الآداب والفنون، عامةً، في السودان.
وُلد عبد الكريم الكابلي في عام 1932. وحين نالت البلاد استقلالها، كان عمره 24 عاما. فهو بهذا، ابن تلك الحقبة. وما لبث الكابلي، حين ناهز الثلاثين، أن أضحى أحد أبرز نجومها البازغة. حينها، تناثر الأفندية في عواصم المديريات ومدنها. ونشأت مجاميع السمر، ونشأت العلاقة بين الأفندية والمغنين. فأخذ عدد من أشهر المغنين في التطواف على تلك المجاميع النخبوية، وكذلك، على سائر الجمهور. ومع منتصف القرن الماضي، تراجع شعر الحقيبة؛ بحِسِّيَّتِه التشريحية الغرافيكية لجسد الأنثى، وأخذ نمطه يخلي مكانه، تدريجيًا، لأنماط شعرية حديثة، ولموسيقى أكثر تركيبًا، وثراءً لحنيا. صاحب ذلك انتشار دور السينما التي عكست أساليب الحياة الحديثة فيما وراء الحدود. وبما أن الهوس الديني لم يكن أواره قد استعر بعد، مثلما جرى في نهايات حقبة نميري، إضافةً إلى ما تلا في فترة حكم الإنقاذ، فقد كان المناخ النفسي، السابق لهاتين الفترتين المضطربتين، رائقًا. ومن ثم، سمح بازدهار الفنون والآداب، وسائر الأنشطة التي تعكس ثقافة الشعب وحيوته الوجدانية. وقد شهد عقدا الستينات والسبعينات، من القرن الماضي، قمة الازدهار الغنائي.
في الستينات، لمع في سماء الشعر، صلاح أحمد إبراهيم، ومحمد المكي إبراهيم، ومحمد عبد الحي، والنور عثمان أبكر، وعلي عبد القيوم، وعبد الرحيم أبو ذكري، وكمال الجزولي، وغيرهم. كما كان محمد المهدي المجذوب، المخضرم حينها، مستمرا في الإنتاج، ولكن بدفق حداثيٍّ جديد، أوجد به لنفسه مقعدًا في المركبة الجديدة، التي حملت من جاءوا بعده. أيضًا، كانت مدرسة الخرطوم في الفن التشكيلي، حينها، ملء السمع والبصر، في النطاقين العالمي والإفريقي. أما في مجال الغناء، فقد كان عقد الستينات هو عقد وصول الكابلي إلى كرسي عرشه المميز. كما شهدت الستينات لمعان نجوم فكرية وأدبية سامقة، مثال: جمال محمد أحمد، ومنصور خالد، والطيب صالح. وهي ذات الفترة التي أصبح فيها اسم الأستاذ محمود محمد طه على كل لسان.
ساد الحقبة الغنائية الأولى، التي تبلورت نهايات الربع الأول من القرن العشرين، نمط الغناء المسمى “حقيبة الفن”. فتسيَّد تلك الفترة كلٌّ من، كرومة، وسرور، والأمين برهان، وعلي أبو الجود، وإبراهيم عبد الجليل، وفضل المولى زنقار، وغيرهم. وقد مثل الرائد الكبير، إبراهيم الكاشف حلقة وصل، بين تلك الفترة، وما تلاها. فهو قد غنَّى على نمط الحقيبة، ثم ما لبث أن أحدث النقلة اللحنية البائنة، المصحوبة بالأوركسترا، وبالمقدمات الموسيقية التصويرية، واللزمات المبتكرة. ومشى على دربه في ذلك، عبد الحميد يوسف، وأحمد المصطفى، وعثمان حسين، وإبراهيم عوض، والتاج مصطفى، وعبد العزيز داؤود عبر ثنائيته مع برعي محمد دفع الله، والعاقب محمد حسن، وعثمان الشفيع في ثنائيته مع محمد عوض الكريم القرشي، وعائشة الفلاتية، ومهلة العبادية، ومنى الخير، وغيرهم. برزت في تلك المرحلة نقلةٌ أخرى جديدة، مثلها كلٌّ من: محمد وردي، وعبد الكريم الكابلي، ومحمد الأمين، وأحمد الجابري، وصلاح بن البادية، وأبو عركي البخيت، وزيدان إبراهيم، والبلابل، وثنائي العاصمة، وغيرهم. وبطبيعة الحال، هناك نجوم آخرون، مؤثرون، غير هؤلاء، لا يقل إسهامهم وصيتهم عن هؤلاء المبدعين البارزين، لكن لا يتسع الحيز لذكرهم، حصرا.
أردت أن أخلص مما تقدم إلى القول، إن رحيل عبد الكريم الكابلي يمثل لديَّ، علامةً فارقةً من علامات انقضاء تلك الحقبة السودانية الزاهرة، التي أرى أنها قد كانت “فلتة”، وازدهارًا خارج السياق. ونحن نقف اليوم عند مفترق الطرق، بين حقبتين مائزتين في السياسة وفي الثقافة السودانية. حقبة شملت ثلاث مراحل، انطوت الآن أو تكاد. وحقبة جديدة نستقبلها الآن، لا تزال تُمْتَخَضُ في رحم الغيب. وتمثل ثورة ديسمبر التي لا تزال فصولها تتوالى، فجرها ومخاضها العسير، الذي لا نزال في بداياته. ومشوار هذه الثورة، فيما يبدو لي، حتى تدرك غاياتها، سيكون طويلا. من رماد دولة الأفندية، ومع بزوغ فجر حقبة المليشيات المجوقلة على “التاتشرات”، يخرج طائر الفينيق الشبابي بمليوناته، وقيمه الجديدة الطازجة، وبسالته الأسطورية، التي أخذت بمجامع قلوب العالم. يخرج الفتيان والفتيات بفطرة سليمة أبت أن تتشوه، مستعيدين من تحت ركامٍ كثيف، قيمهم الانسانية الكوشية الصوفية. صادحين بملامح موسيقى جديدةٍ مختلفةٍ، شكلتها ذائقتهم الكوكبية، ليبنوا بوجدانٍ جديدٍ، الحياة السودانية الطليقة، المشتهاة، فوق ركامٍ من الأباطيلِ والترهات البليدة. ولسوف تغرب شمس عصرنا نحن، الذي مثل الكابلي ورصفاؤه من المبدعين، حملة مشاعله، لتشرق شمسٌ جديدة.
برحيل الكابلي ترحل بقايا تأثيرات الإرث الكلونيالي الممتدة في الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، التي انعكست على حالة الفن، على مدى نصف قرن، امتد منذ عشرينات القرن الماضي، حتى سبعيناته. إننا نودع الآن دولة الأفندية المضطربة، التي أفضت بنا إلى الارتداد إلى الخلف، والوقوع في براثن الهوس الديني، والشوفينية القبلية، والمناطقية، وأفضت بنا، في نهاياتها، إلى حقبة المليشيات المسلحة، وانعدام الأمن الشخصي، وادلهمام صورة المستقبل، وسيطرة اللهث وراء الضروريات، ونشوء مناخٍ نفسي خانق، وانسداد وجداني بليغ.
يموت الآن، وببطء، موتًا مؤلمًا، عهدٌ مضطربٌ عقيم. في حين يولد بإزائه عهدٌ جديدٌ وضيءٌ، لمَّا تتضح ملامحه بعد. في منطقة الظلال هذه نودع المبدع العظيم، عبد الكريم الكابلي، بكل ما رمز اليه في تجربته الإبداعية الباذخة، وكل ما مثلته حقبته “الفلتة” هذه. قال الأستاذ محمود محمد طه، قبل عقودٍ طوالٍ، وهو يحكي بتفاؤل يقيني، عن مستقبل السودان وأهله، قائلا: “وسيكون يومنا خيرٌ من أمسنا، وسيكون غدُنا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”. ولا شك عندي أن الكابلي، صاحب القلب الحي، الثائر، التائق، دوما، للجديد المثمر، قد سُرَّ سرورًا عظيمًا، وهو يشهد في خواتيم حياته الخصيبة العامرة، انطلاق هذه الثورة العظيمة. لقد قدر الله أن يفارق عبد الكريم الكابلي عالمنا هذا، وتجري مواراة رفاته في بلاد بعيدةٍ وبيئةٍ ثقافية غريبة. وهو ما جرى، من قبل، للشاعر الضخم محمد الفيتوري، الذي صور طرفًا من هذه الحالة، حين قال:
في زمنِ الغربةِ والارتحالْ
تأخذني منك وتعدو الظلالْ
وأنت عِشقي، حيث لا عشقَ يا سودانُ، إلا النسور الجبالْ.
وحين قال، أيضا:
لا تحفروا لي قبراً !
سأرقد في كلِّ شبرٍ من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
مثلي أنا، ليس يسكن قبرا
ألا رحم الله المثقف والشاعر والموسيقار والإنسان الخلوق النبيل، عبد الكريم الكابلي، وتقبله بين الصالحين المُجتبين الأخيار. فقد عاش حياةً خصبةً مثمرةً، تعدت تأثيراتها ذاته وأسرته ومحيط أقاربه ودائرة أصدقائه، لتملس حياة الملايين؛ داخل السودان وخارجه. فسلام على عبد الكريم الكابلي في الخالدين.