عقل الترابي ويده وبسمته

0 67
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(في مناسبة مرور ذكرى رحيل الدكتور حسن الترابي الخامسة (٥ مارس ٢٠١٦) أعيد نشر كلمة عنه نشرتها في بابي “ومع ذلك” بجريدة الخرطوم في ١٠ أكتوبر ١٩٨٨).
اتفق كثير ممن شاهدوا الدكتور حسن الترابي على شاشة التلفزيون يوم إجازة القراءة الثانية لقانونه الجنائي (ومعروضاته الأخرى) على أنه يعرف جيداً ماذا يعرف بعقله بينما لا يعرف ما يفعل بيديه. وبناء على ملحوظة نافذة للسيد على أبو سن أستطيع القول إن الترابي لا يعرف ماذا يفعل ببسمته أيضاً. فهي حاضرة دائماً عند نهاية كل جملة مثل نقاط الختام.
ومهما يكن فقد كسب الترابي كثيراً بحضوره التلفزيوني. وكان الكثيرون منا يريدون، لوجه المقارنة، أن يستمعوا من المعارضة، والمعارضة الديمقراطية بالذات، ليروا كيف تتحد القناعة بالجسم عند رموز تلك المعارضة. وغابت تلك المعارضة عن هذا الوسيط الإعلامي الهام في سياق اعتذارها بالنقاط القانونية. وهو اعتذار طال وغياب طال. وأخشى أن يترتب عليه أن يستقر عند الناس أنه يمكن أن “تطنطن” برفض الدولة الدينية ولكن لا سبيل إلى قول ذلك علناً ومواجهة. وهذه من علائم الهزيمة المبكرة.
استنكر الترابي في كمته أن يلغى العلمانيون فارق الدين في تقريرهم للتمتع بالحقوق الإنسانية. فيحظى بها المرء عندهم بغض النظر عن الدين والعرق واللون. ويريد الترابي للدين أن يكون هو نفسه حرية. وكانت حجته أن العرق واللون يدمغان الإنسان فلا فكاك منهما. فإذا ولد الإنسان أسود أو أبيض ظل على ذلك طوال حياته. وإذا ولد جعلياً أو أنقلوسكسونياً مات على ذلك. أما الدين، في قول الترابي، فللناس فيه خيار. وقد يبدله الإنسان دينه تبديلا.
ولحجة الترابي هذه منطق قوي مقنع لولا أنها جاءت منه لا غيره. ولعلها مجانبة كبرى أن يحتج الترابي بأن الدين مما يمكن استبداله وهو الذي صمم المادة ١٢٩ من القانون الجنائي التي يُقتل بموجبها من يتحول عن الإسلام إلى دين أو مذهب آخر. فبمثل هذه المادة يصبح الدين (مثله في ذلك العرق واللون) مما تمليه الطبيعة (أو الجماعة) على الإنسان فلا يملك بإزائه صرفاً ولا عدلا. وبدا لي أن الترابي لا يعرف أحياناً ماذا يفعل بعقله أيضاً.
شن الترابي في كلمته، ومن موقف سلفي، هجوماً على ما يسمى ب”مركزية الغرب”، أي كون خبرة الغرب وذوقه ومزاجه هي العليا بشأن سداد المفاهيم العالمية مثل حقوق الإنسان وفلسفة العقوبة وتربية الطفل وغيرها. ولا يخفي أن الترابي متهم ب”التلوث” بالغرب من قبل علماء الدين الذين تخرجوا في مؤسسات دين أصولية معتمدة. والحق أن لا منجاة للترابي من هذا “التلوث” بحكم تعليمه وتأهيله الذي افتخر به في كلمته موضوع حديثنا. وحتى في نقد مركزية الغرب ربما كنت تابعاً للغرب من حيث تدري ولا تدري لأن أهل الغرب قد بلغوا الغاية في نقد مركزية ثقافتهم. فحين يسمي الترابي في كلمته “أوثان” القبائل الجنوبية عنذدنا ب”الديانات الأفريقية” فهو إنما يفيد من مصطلح تمخض عنه الغرب في صراع فكري طويل لينصف ملل ونحل “البدائيين”. ولو حَكّم الترابي سلفيته لقال إن تلك أوثان وهي ضلالات وجاهلية وغيره وغيره.
وأهم من ذلك فالترابي حين قبل بفكرة أن الإنسان قد يغير دينه في معرض احتجاجه بالتفريق بين العرق واللون من جهة والدين من الجهة الأخرى فهو إنما كان “يلحد” بلسان ليبرالية الغرب ولكنه يتحدث، في نفس الوقت، بلسان سلفي مُبين في المادة (١٢٩) التي تقضي بقتل من يغير دينه.
للأمريكيين عبارة رائجة عن مثل الترابي في حرصه على سلفيته وتعلقه بالغرب ما يزال. فيقولون عن مثله إنه يريد أن يحتفظ بكيكيته ويأكلها في نفس الوقت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.