على خطى كولمبس

0 63
كتب: جعفر عباس
.
تم قبول ولدي لؤي في جامعة بنسلفانيا وكما رافقني خالي على صهوة حمار في اول يوم لي في مدرسة البرقيق فقد رأيت ان من الواجب ان ارافق لؤي الى الولايات المتحدة، ولأغراض الحصول على الفيزا استدعاني القنصل الأمريكي في الدوحة، وكنت قد أرفقت مع طلب الفيزا جوازات سفري القديمة التي تفيد بأنني زرت الكثير من البلدان الغربية، وهذا أمر ضروري كي يطمئن الى انني لست من النوع الذي يخطط للزوغان في بلد ما، وبعد تقليب الجوازات سألني: متى تعتزم التقاعد؟ قلت في سري: الله أكبر عليك (لأنه رأى الاختام التي تفيد بأنني مقيم في قطر منذ هروبي اليها بعد معركة كرري)، فقلت له: أنني مثل جميع أهل وطني علي أن أعمل حتى الموت او الإعاقة التامة، فختم التأشيرة على جوازي وودعني باسما.
بعدها صرت شايل هم رحلة جوية مباشرة من الدوحة الى واشنطن تستغرق 14 ساعة، وهذه مدة يتزوج خلالها نحو نصف مليون شخص ويولد نحو 867 ألف شخص ويموت مئات الآلاف، ويفقد كل مسافر أكثر من 11 مليون خلية من جلده أما ركاب الطائرة مجتمعين فيفرزون 300 مليلتر مكعب من الروائح المختلفة و150 لترا من سوائل العرق، والطامة الكبرى أنهم ينتجون 144 لترا من غازات البطن، وما أدراك ما غازات البطن!! يعني كل مسافر يلتقط خلايا جلود الآخرين ويستنشق الغازات والروائح آنفة الذكر 😷
وتوكلت على الحي القيوم وركبت الطائرة ونزلنا في مطار واشنطن – دلس، وخلال دقائق كان معظم الركاب قد فرغوا من إجراءات المغادرة وبقينا نحن حملة جوازات السفر السودانية والسورية والإيرانية حيث احتجزونا في قاعة خاصة ثم أتوا بكلب ارتفاعه متر وربع، ووزنه نحو مائة كيلوغرام مربع، ل”يشمنا” نحن وأمتعتنا، ولو لم يطنشني الكلب ابن ستين كلب، لاعترفت بأعلى صوت بأنني عضو في خلايا القاعدة النائمة والصاحية والناعسة واني شاركت في قتل غردون وجون كيندي، “بس فكوني من الكلب”، وبعد جرجرة والكثير من السين والجيم ختموا على جوازاتنا وغادرنا تلك القاعة متوجهين الى قاعة الرحلات الداخلية حيث ركبنا طائرة صغيرة ذكرتني بحافلات سنكات-جبرونا القديمة في مدني الى ستيت كولدج حيث الجامعة.
كانت أمور لؤي في الجامعة مرتبة على نحو ممتاز ولم يتطلب الأمر تدخل ولي الأمر للاحتجاج او المطالبة بشيء، وهكذا تركته وانطلقت الى فيلادلفيا وبوسطن وواشنطن دي سي، والكساندريا ونيويورك، والسفر داخل أمريكا بالقطار او البص فيه متعة عالية، فهذه بلاد تكاد تنافس جزيرة بدين من حيث جمال الطبيعة، وصحيح ان أمريكا قامت على العنف الأهوج فقتل المهاجرون الأوربيون سكان البلاد الأصليين وانتزعوا أراضيهم ثم انقلبوا على بعضهم البعض في التنافس على الذهب ثم استعبدوا الأفارقة وحققوا بهم نهضة زراعية عجيبة، وما زال هناك تمييز عنصري مؤسسي في أمريكا، ومع هذا فإن الأمريكان هم أكثر شعوب الغرب بشاشة، فلا يمكن ان تقع عينا الأمريكي عليك اكثر من مرة دون أن يحييك ولو بابتسامة.
عندما وصلت واشنطن ورأيت ان معظم الناس من حولي سود البشرة تذكرت مطربنا أبو داوود الذي ما ان رأى هذا المشهد حتى تساءل: دي واشنطن وللا واو؟)، وذات يوم أحد ذهبت الى حديقة عامة ضخمة وفي ساحة فيها اجتمع عشرات من ضاربي الطبول والبنقز (اصل الكلمة bongo ولو كانت أكثر من طلبة واحدة تصبح bongos)، وبدون سابق اتفاق يبدأون في الضرب على نحو 40 طبلة، فينتج عن ذلك إيقاع يجعلك “مدسترا”، وفجأة وجدت أمامي شخصا بجلابية وعمامة وحذاء من جلد النمر المغشوش (بالمناسبة لا يوجد نمر واحد في أي بلد أفريقي بل هناك فهود وشيتا من نفس عائلة النمور)، وقال بدون سلام: عامل نفسك كاتب مشهور، هسع اكلم ليك الجماعة ديل يدقوك بدل الدلاليك دي!! كان اسمه عبد المنعم الجزولي (شقيق الأستاذ الكبير كمال الجزولي).
ثم تلقاني بالأحضان وحكى لي تجربته في أيامه الأولى في واشنطن عندما رتبوا له ولعائلته مع آخرين جولة في البيت الأبيض، ثم انتبه الى اختفاء ولده الصغير فدار حول المبنى ووجده “يترتر” على أحد الجدران، ثم فوجئ بثلاثة من جنود المارينز يتوجهون نحو الصغير فقرر أن “يتغابى فيه العِرفة”، وقال: خليهم يبعدوه لوحده الى ام درمان فورا، وإذا بالجنود يتبادلون الحديث مع الولد الذي لم يكن يعرف كلمة انجليزية واحدة بلغة الإشارة وينفجرون ضاحكين، وحكى أيضا كيف انهم أخضعوه لفحص طبي شامل ثم تلقى اتصالا هاتفيا بعدها بأيام قالت فيه ممرضة انه يجب ان يأتي الى العيادة ليقابل الطبيب في امر هام، فجلس واضعا يديه على رأسه: أكون مصاب بإيدز؟ ربما سل؟ ربما التهاب كبد فيروسي؟ ثم توكل على الله وقابل الطبيب الذي قال له انه يعاني من ارتفاع في الكولسترول الضار LDL، المهم ولأنه تربية جردقة وحرجل فقد لجأ الى وصفة بلدية لخفض الكولسترول وهي أكل الكوسا نيئة. ولكنه اكتشف ان طعم الكوسا أسوأ من طعم زيت الخروع فصار يغمس الكوسا في القهوة ثم يأكلها، ثم اضطر الى اللجوء الى الأسلوب “الحضاري” وهو أقراص “ستاتين”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.