غضبة الفريق أحمد محمد باشا المضرية (١٩٥٦): أيام لم يكن فينا فريق بيت ولا خلاء
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
أواصل هنا ما بدأته بالأمس من نقد عقيدة سادت بيننا من أن الانقلاب ما يوحي به المدنيون لجيش سِميع عقله في أذنيه. ورددت هذه العقيدة إلى مطاعنات أهل الأحزاب بعضهم لبعض في تذنيب من جر منهم الجيش للسياسة ومن هو طاهر الذيل. وعليه فنظرية خلو الجيش من السياسة (في التسلح والتشوين حتى الجاه الوظيفي ونعمه) “رص” صفوة تستهلكها جرائرها لا علماً منيراً.
كانت “الخبطة” البحثية التي حظيت بها في دراستي للسياسة في الجيش باستقلال عن فحيح المدنيين هي ما زودني به الورّاق الأعظم الصديق عبد الغفار المبارك. فقد وضع بين يديّ خبر صراع دار بين الجيش والحكومة خلال عمليات السودنة كما نقلته جريدة “العلم” صوت الحزب الحاكم، الوطني الاتحادي، حتى أزيح من الحكم في يوليو 1956. وكان مدار هذا الصراع رفض الحكومة ترقية اللواء أحمد محمد باشا إلى رتبة الفريق.
نشرت العلم في 19 مارس 1956 خبراً عن تقاعد الباشا يوم 28 مارس ليحل محله اللواء إبراهيم عبود. ففيه قال الباشا لمندوب جريدة العلم في 21 مارس 1956 إن ما ذاع عن استقالته، بسبب قرار مجلس الوزراء بعدم ترقيته لرتبة الفريق، سابق لأوانه. وزاد بأن ما حز في نفسه أن يسمع من الصحف بقرار في خطر عدم ترقية من في مقامه. وهي ترقية مستحقة له بالمادة 38 من قانون الجيش التي تخول للضابط الكفء أن يشغل وظيفة الفريق متى خلت. وقد شغرت الوظيفة بسبب سودنة الجيش وخلو منصب قائده الفريق الإنجليزي. وقال إن وطنيته أبت عليه طلب الوظيفة من الحاكم العام خوفاً على سمعة الحكم الوطني.
وكان للحكومة حجج في حجب الترقية عنه فندها الباشا في مثل قولهم إن القائد البريطاني استحق منزلة الفريق لأنه كان على رأس القوات الإنجليزية والمصرية وقوة دفاع السودان جميعها معاً. ولم يكن ذلك صحيحاً في قول الباشا. فكانت للإنجليزي قيادة الجيش المصري والإنجليزي بالوكالة أما قيادته لقوة دفاع السودان فهي الأصل. ونبه الباشا إلى أن الجيش الذي قاده هو آنذاك أربى عدداً على ما كانت عليه الجيوش الثلاثة في ظل الإنجليز. واستغرب الباشا احتلال غيره ممن سودنوا البريطانيين في الخدمة المدنية درجات سلفهم الإنجليز بلا حرج. وقال بنبرة حزينة إنه تخرج من الكلية القديمة وفضّل العمل في الجيش على غيره طوال 40 عاماً “لم يسجل عليّ خلالها ولو خطأ بسيط وملف خدمتي يشهد ذلك”.
وجاء دور الحكومة لتوضيح قرارها بعدم ترقية الباشا معتذرة بسماعه لخبر حجب الترقية من الصحف. ولكنها تمسكت بموقفها من أن عددية الجيش لا تؤهله لقيادة في مستوى الفريق حسب العرف العالمي. وجاءت بطاقم الفيالق والأورط والبلوكات والصفوف التي تستدعي قيادة فريق متى أكملت النصاب (24 مارس 1956). وجرت تطورات في ذلك الجدل نقلتها جريدة العلم في 25 مارس 1956. من ذلك أن الباشا كان تسلم في الأثناء قرار منع ترقيته لرتبة الفريق من مجلس الوزراء. وبلّغ الباشا الجريدة أنه تقدم بمذكرة احتجاج لمجلس السيادة يطعن في شرعية قرار الحكومة. فهي عنده ليست جهة الاختصاص في ترقيته وإنما الأمر لمجلس السيادة الذي يتبع له الجيش مباشرة.
ليس بين يديّ من جريدة العلم ما نقف به عند مآل هذه المواجهة بين الجيش والحكومة. ولكن اتفقت كتابات غير موثوقة هنا وهناك بتسمية الباشا فريقاً متى مر ذكره. ولا ندري إن كان تدخل مجلس السيادة قد فض المواجهة وأرضى الباشا. ولكن واضح أن إبراهيم عبود، الذي خلفه، قد جاءنا فريقاً على رأس المجلس الأعلى للقوات المسلحة في نوفمبر 1958. وقد يعني هذا أنه استحق الرتبة على الصورة التي طمح إليها الباشا حين سودن القائد الإنجليزي لقوة دفاع السودان.
لقد غابت سياسات الجيش عنا لأنها مما ورد في الصحف التي قال غشيانها من صفوة البحث والرأى. ويَمَت ما يذاع عن خلو لوح الجيش من السياسة إلا بما يعديه به المدنيون إلى مشكلة الأرشيف في علم السياسة السوداني.