فرصة أخرى يجب ألا تضيع

0 96

كتب: خالد التيجاني النور

(1)
قبل نحو عقدين شاركت ضمن مجموعة صحافيين من الشرق الأوسط في برنامج دراسي في سيول عن الاقتصاد الكوري الجنوبي بالتركيز على معطيات التطور الصناعي والتكنولوجي الذي شهدته على مدار نصف قرن ليؤهّل ذلك البلد الصغير ليكون ضمن الاقتصادات العالمية الكبرى. وفي أول محاضرة سألنا بروفيسور الاقتصاد عن رأينا في سبب النهوض الكوري، ولأن معظمنا أتى من منطقة يمثل النفط فيها أكبر محرك للاقتصاد ولتراكم الثروات الريعية، كان هو أول ما خطر على بال أكثر من سارع للإجابة، رد الأستاذ قائلاً تذكروا إن كوريا الجنوبية بلد صغير لا يملك أية موارد طبيعية لتوليد الثروة.
(2)
حسناً كيف نهضت إذاً؟ إنه سؤال القيادة ذات الرؤية الاستراتيجية المبصرة، والإرادة الخلاّقة، والإدارة الفعالة، فهي التي تصنع الفرق، لا يختلف اثنان أن الفضل في نهوض كوريا الجنوبية يعود إلى الجنرال بارك تشونغ هي، صحيح أن الجدل محتدم حوله كزعيم ديكتاتوري وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري في العام 1961، ولكن على الجانب الآخر كان هو القائد الذي تبنى نموذج الدولة التنموية وصاحب رؤية النهوض الاقتصادي الذي قاتل من أجل تحقيق سياسة “التصنيع للتصدير” التي انجزت النمو السريع لبلاده، كانت المفارقة التي ألجمت ألسنتنا أن ملحمة التصدير في كوريا، تحت رؤية وعزيمة الجنرال، ببدأت رتربية الكوريين لشعر رؤوسهم، وقصها ليصنع منها شعر مستعار “باروكات” لتصديرها لأمريكاّ!!. وبعد عقود قليلة كانت التكنولوجيا الكورية هي المنافس الأكبر لنظيرتها الأمريكية، الدرس أنه لا مستحيل تحت الشمس متى ما توفرت القيادة والرؤية والإرادة.
(3)
عادت بي الذاكرة إلى هذه القصة وأنا أشاهد بحسرة برنامج “سيناريو” بقناة الجزيرة قبل يومين الذي ناقش تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد العربي، وتبعاته على الأمن الغذائي العربي، وما هي قدرة البلدان العربية على الصمود، وما الذي ينبغي عليها مراجعته في ألياتها الاقتصادية؟
أجمع المتحدثون من الاقتصاديين المشاركين في البرنامج على أن تأمين الغذاء سيكون هو التحدي الأكبر أمام الدول العربية، في ظل توقعات بأن يشهد سوق الإمدادات الغذائية العالمية تحولات مهمة في تركيبتها الراهنة، لذلك سارعت الكويت إلى طرح مبادرة للأمن الغذائي على مستوى مجلس التعاون الخليجي الذي تبلغ فاتورة استيراده للغذاء عشرات المليارات من الدولار سنوياً، فضلاً عن الدول العربية الأخرى التي ستواجه جميعاً تحدي تأمين إمدادات الغذاء لمواطنيها.
(4)
وكما هو متوقع فقد أجمع الخبراء المشاركون في النقاش على اعتبار السودان، بموارده الطبيعية الكامنة المعروفة، كأفضل خيار للاستثمار في الأمن الغذائي لهذه الدول في تحقيق حاجتها الماسة للأمن الغذائي. ولكن السؤال الكبير هل يعي السودانيون من صناع السياسات ومتخذي القرار ماذا يعني ذلك؟ وهل هم مستعدون لالتقاط هذه السانحة وتحويلها إلى فرصة لا يجب إضاعتها، ولا يمكن تعويضها، وقد جاءت منحة ربانية من طي محنة ضربت البشرية بأجمعها، وقديما قال المجذوب “قد يكون الخير في الشر انطوى”.
(5)
عندما غشتنا جائحة كورونا ونهض القطاع الصحي بقيادة وزيره الهميم في الاستعداد لطوارئها بجهد مقدر مهما كانت نواقصه، دون شكوى أو تعلل من قلة الإمكانات، طالبنا بالانتباه أيضاً لطوارئ الجائحة الاقتصادية التي ستغير خريطة العالم الاقتصادية بلا شك، ولكن للأسف الشديد لم نر من ذلك إلا استمرار نمط التفكير المحدود، والجدل العقيم، من شاكلة النقاش الشديد البؤس في معركة سطحية حول “الدعم”، دون نظر في أصل الداء وضرورة إصلاح مؤشرات الاقتصاد الكلي، بدل الاقتتال العبثي في الانشغال بالنتائج والأعراض، بدلاً من مخاطبة الأسباب ومعالجة جذور أمراض الاقتصاد.
(6)
ها قد هبطت على السودان فرصة أخرى للنهوض، تلزمه أن يتعظ من إفشال تجربة الهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي التي أسست للغرض نفسه منذ سبعينات القرن الماضي، وأن يسارع إلى توفير المعطيات والشروط موضوعية والبيئة الجاذبة للاستثمارات الخارجية المباشرة، فهي السبيل الوحيد للخروج من دائرة التخلف الاقتصادي والتنموي في بلد لا يقعد به إلا فقر القيادة وغياب الرؤية وانعدام الإرادة، والافتقار إلى الخيال، وإدمان تسول المعونات والمساعدات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.