فقدنا إنسانا من طراز فريد

0 94
كتب: د. النور حمد
.
رن جرس الهاتف في بيتنا صباح السبت ١٢ ديسمبر لينقل لنا من كان على الطرف الآخر الخبر الفاجع بانتقال أخينا الطبيب الإنسان، بروفيسور الطيب أحمد النعيم. ولقد ظللنا عبر الأسابيع القليلة الماضية نبتهل إلى الله أن ينتصر الطيب على داء الكورونا الفتاك، ويعود إلى أسرته وأهله وأصدقائه معافى، ليواصل ما بدأه من جليل الأعمال في إعمار المدارس والإسهام في النهوض بحياة أهل الريف. لكن غلبت الإرادة القديمة الحكيمة واصطفته إلى جوارها في دار الخلود التي لا يدخلها شر ولا بلاء.
عرفت الطيب النعيم منذ ما يزيد على الأربعة عقود. كان وقتها طالبا بالمرحلة الثانوية، وكنت مدرسا للفنون بنفس المرحلة. وقبل معرفتي به عرفت أخاه الأكبر، البروفيسور بجامعة إيموري بالولايات المتحدة الأمربكية، عبد الله أحمد النعيم. كما عرفت أيضا والدهما، طيب الذكر، أحمد النعيم. وقد تقاطعت صلتي بهذه الأسرة الكريمة في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، بسبب ارتباط الأسرة بالأستاذ محمود محمد طه وحركة الجمهوريين. ولقد كانت أولى الندوات التي حضرتها للأستاذ محمود محمد طه، ندوة انعقدت بمنزل هذه الأسرة، الذي كان وقتها في الحارة السادسة بمدينة الثورة بأم درمان. جرت الندوة بدعوة من الأسرة لوداع عبد الله أحمد النعيم، الذي أكمل حينها دراسة القانون في جامعة الخرطوم، وكان على أهبة الاستعداد للسفر إلى أدنبرة باسكوتلندة للتحضير لدرجتي الماجستير والدكتوراه.
جاءني الطيب وهو في نهاية المرحلة الثانوية، راجيا مني أن أقدم له دروسا خاصة في الفنون، لأنه يود الإلتحاق بكلية الفنون. لكنه تخلى عن الفكرة، واختار دراسة الطب وسافر من أجل ذلك إلى باكستان. وقد عرفت لاحقا أنه كان يود دراسة الزراعة أيضا. أكمل الطيب دراسة الطب في باكستان ثم هاجر وعمل طبيبا ببريطانيا. وانتهى به الأمر استشاريا بمستشفيات بالمملكة العربية السعودية. أما بروز إسم د الطيب النعيم في مجال العمل العام فقد حدث عقب الحادثة المؤسفة التي غرقت فيها مجموعة من الطالبات في منطقة المناصير، وهن على ظهر مركب كان ينقلهن عبر مياه النهر إلى حيث مدرستهن. قاد الطيب حملة لتشييد مدرسة في تلك القرية بمبادرة فردية وجدت تجاوبا ودعما من مختلف السودانيين في الداخل والخارج. وما لبث ذلك الجهد أن تبلور لتظهر إلى حيز الفعل المنظمة السودانية لدعم التعليم (سيدسو).
شاهدت الطيب في فيديو بثته الفضائية السودانية قبل بضعة أيام من رحلته الأخيرة إلى قرية أبو سنون في ولاية شمال كردفان للاحتفال بإكمال صيانة مدرسة هناك. وقد ذكر الطيب في ذلك الفيديو انهم وجدوا أن أهل تلك القرية يعانون من شح الماء. فقامت المنظمة بمساعدتهم في حفر بئر. تحدث الطيب في احتفال قرية أبو سنون أن منظمتهم لا تتلقى دعما من أي منظمة أو دولة خارج السودان. كما أنها لا تعتمد على أي دعم حكومي داخلي. أيضا هي لا تصرف على العاملين فيها. فمورد المنظمة الوحيد وهو اشتراكات المنتسبين إليها، الذين بلغ عددهم 8000 منتسب.
جاء الطيب من مقر عمله بالسعودية ليمكث مدة أسبوعين يقوم خلالها بطواف على المواقع التي تعمل فيها المنظمة في أرياف للسودان. وشاءت إرادة الله أن يصيب الفيروس الطيب في هذه الزيارة القصيرة ولينتقل إلى دار البقاء بعد بضعة أسابيع أمضاها في مصارعته. ألا رحم الله الطيب النعيم رحمة واسعة وأنزله منه منازل القرب مع الصالحين المجتبين الأخيار. لم أعرف فيمن عرفت شخصا مهتما اهتماما أصيلا مبرأ من أي غرض بمشاكل الناس، مثلما عرفت ذلك في الطيب النعيم. وما أعرفه مما ظل يقوم به الطيب النعيم طيلة حياته في مساعدة المحتاجين، من غير من ولا أذى، يمثل أضعافا مضاعفة لجهوده التي ظهرت له مؤخرا في العمل العام الطوعي.
لقد دشن الطيب النعيم حقبة الإصلاح من الجذور استنادا على الجهد والتضامن الشعبي الخالصين. قال وهو يخاطب الناس في قرية ابو سنون قبل أسابيع من وفاته داعيا الجميع للانخراط في العمل الذي تقوم به منظمتهم لأنه حسب عبارته: “فيه خير الدنيا والآخرة” . لقد أنجز الطيب النعيم بين عامي 2018 و 2020 إنجازات مذهلة بدأت من الصفر. ولقد ختم حياته شهيدا وهو يسعى في خير الناس وفي إصلاح أحوالهم. كان الطيب النعيم ممدودا بعلم هو قبس من علم الأنبياء النافع، وبهمة هي قبس من همم المرسلين أولي العزم. فسلام عليه في أعلى عليين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.