فقر العقول لا الحقول
كتب: خالد التيجاني النور
(1)
أما أن هناك حاجة ماسة وعاجلة لا مناص منها لإصلاح جذري للاقتصاد السوداني، فهذا ما لا ينتطح فيه عنزان، ولا مكان للجدال فيه بتاتاً بأي مسوغ، بيد أن ذلك لا يتحقق خبط عشواء، بلا بصيرة أو هدى وكتاب منير يقوم على رؤية مبصرة مدركة للفرص والتحديات، ووعي عميق بجذور المشكلة وتشخيص دقيق لأسباب العلة، ووصف صحيح لدواء ناجع، وكل ذلك غير ذي نفع إن لم تتصد له قيادة حكيمة ملهمة ذات همة، وإرادة صلبة، وإدارة فعّالة، وإطار سياسي حاكم موات، وعمل مؤسسي، وعدالة فرص، وشفافية، ومحاسبة، ومساءلة.
(2)
لم تبدأ مشاكل الاقتصاد السوداني العويصة اليوم، فهي نتاج تراكم عقود من عجز وفساد وقلة حيلة الطبقة الحاكمة على مدار عقود، بلغ الفشل فيها مداه ذلك أن البلد الذي يمتلك من الموارد والإمكانات الطبيعية والبشرية ما لم تملك مثله إلا قلة من الدول في أركان المعمورة الأربع التي يجتمع لها كل أسباب التنوع وتعدد مصادر الثروات في باطن الأرض وظاهرها، من بينها كلها لا يزال السودان قابعاً ضمن تصنيف الدول الأشد فقراً، الذي تحوّل من مظنة أن يكون من ضمن سلال غذاء العالم، فإذا به عاجز عن إطعام نفسه يستورد غذاءه، ويتسول المساعدات والمعونات. تتعاقب الأنظمة والحكومات، والعقل، أو بالأحرى اللا-عقل، السياسي والاقتصادي المصمت يدور في الحلقة المفرغة ذاتها، يعيد إنتاج الأزمة، كيف لا والتفكير المغلق مرتهن للنمط نفسه بالدوران داخل صندوق العجز.
(3)
جاءت ثورة ديسمبر المجيدة محمولة على أكتاف وتضحيات جيل جديد من السودانيات والسودانيين تحدوهم رغبة عارمة في تغيير حقيقي وآمال وطموحات تطلعات إلى بناء سودان جديد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان يحقق شعاراتها السامية الساعية لبلوغ ذرى الحرية والسلام والعدالة، في وطن حر وناهض يستحقونه، وجدير بهم، وملبياً لأشواقهم، مستوعباً لقدراتهم وطاقاتهم، وإبداعاتهم، ومحرراً لهم من قيود فقر الإرادة والهمم، قبل عوز المسغبة والبطالة وانعدام الأمل. فهل في الأفق بعد عام من الانتصار من يقربهم من تلك الأحلام الممكنة؟
(4)
ما أن يتابع المرء الجدل الدائر حالياً في أوساط النخبة الحاكمة حول مختلف القضايا العامة لا سيما في شأن الاقتصاد وما يمس حياة الاس ومعاشهم حتى يرتد إليه بصره حسيراً، لا يكاد يصدق أن هذا النقاش الضيق الأفق والمحدود السقف يمكن أن يرتقي إلى مستوى الآمال العريضة والآفاق الرحبة التي أطلقتها ثورة الجيل الجديد المجيدة، صحيح أن هناك ثمة قضايا ملّحة تحتاج للنزول إلى أرض الواقع بكل تعقيداته، ولكن من قال أن التغيير بكل تلك التضحيات الجسورة والبسالة كانت تبتغي إعادة إنتاج الواقع البائس نفسه الذي ثاروا عليه، ولكن للأسف الشديد تغيرت الوجوه، وبقيت الذهنية المنتجة للفشل حاضرة، وكأنها تتوقع أن تنتج العقلية ذاتها شيئاً مختلفاً.
(5)
ما الذي يجعل دولاً أقل حظاً بما لا يقارن بما يتوفر للسودان من إمكانات وقدرات أن تنهض إلى درجة أن تزاحم دولاً كبرى في مراتب متقدمة ضمن كبريات الاقتصادات العالمية، ألم يأتكم نبأ بلدان مثل كوريا الجنوبية، فيتنام، سنغافورة، وحتى رواندا الخارجة من أفظع مأساة إنسانية، وغيرها كثر، ما الذي ينقصنا حقاً لأن نخرج من دائرة التخلف والفقر والعجز، هل هبطت على هذه الدول حلول من السماء، أم أن جهدها البشري بفضل قيادات فذّة ارتفعت بها إلى هذه المراقي.
(6)
كم هو بائس أن يكون نقاشنا معلق بالأعراض، ومنشغل بالنتائج لا الأسباب، ومنصرف عن الأفاق ملتصق بالتراب، أيها السادة هذا الجدل المحموم عن رفع الدعم أو سمه ما شئت، وكأنه أم مشاكلنا الاقتصادية، تجسيد لبؤس اجتهادنا، وغياب وعينا، كيف؟ هذا ما نرجو أن نواصل الكتابة فيه بإذن الله.