فنجرة البرهان والقضارف التي طال تيممها

0 58

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

دعنا نتفق جدلاً مع الفريق أول البرهان أن للجيش شركة واحدة تعمل في تصدير الماشية واللحوم. ونقول بهذا لأنك لن تجد في أدب الاقتصاديين بياناً راسياً محققاً عن باع الجيش في الشركات. وصار أمرها أمر “قال الجيش” “قال كمال كرار” كما نرى. ولربما تزوزوت وغيري حول المسألة لولا المرحوم إبراهيم منعم منصور، الاقتصادي الفذ، الذي لم يودع الفانية قبل أن يناشد البرهان وحميدتي في آخر مقالاته أن يخرجا شركات الجيش والدعم السريع من الاقتصاد ليتعافى. قولاً واحداً

وأجد نفسي، بعد التسليم جدلاً بأن الجيش صاحب الويحيدة، اعترض على مسألتين. أولاهما أن استثمار الجيش في اللحوم والماشية معيب اقتصادياً لأنه استثمار كسول كما سنرى. أما الاعتراض الثاني فهو في التوظيف السياسي لعائدات هذه الشركة الويحيدة، لو صح القول، توظيفاً يهدم ولاية الدولة على المال.

عيب الاستثمار في اللحوم والماشية في أنه لعب في المضمون في واحد من أكثر قطاعاتنا الإنتاجية استقراراً. جاء القطن ومضى إلى حاله. وجاء البترول وتبخر، أو لحسوهو. وجاء الذهب وانسرق. وبقي هذا القطاع يدر ٤٤٨ مليون دولار للدخل القومي، بل يحتل السودان بسببه المركز العالمي الأول في صناعة لحوم الضان والماعز. وخرج من هذا القطاع الرعيل الأول من الرأسمالية الوطنية مثل ناس أب جيب في شمال كردفان. وتعيش عليه حلقات من الوسطاء من رعاة رحلة الأسواق والسماسرة وأسياد اللواري القفلو الكباري. وقال وجدي ميرغني مؤخراً إن هذا القطاع هو سبيلنا للخروج من أزمتنا الاقتصادية لو صدرنا٢٠ إلى ٢٥ في المائة منه لأسواق مصر وأثيوبيا التي لنا بها ميزات لوجستية بدلاً من ال 0.5% التي نصدرها حالياً. فدخول الجيش، وهو أسوأ مستثمر باتفاق آراء الاقتصاديين كما تطرقت إلي ذلك في كلمة مضت، على هذه القطاع بقضه وقضيضه في الترحيل خاصة منافسة خشنة وضارة لا تليق. فإن كان لابد للجيش أن يستثمر فليبحث عن قطاعات المخاطرة فيها أكبر، والحداثة مطلوبة، والربح أوفر.

أما وجه اعتراضي الأكبر فهو في توظيف البرهان لعائد هذه الشركة الويحيدة جدلاً في الكسب السياسي للعسكريين في تحالف الفترة الانتقالية. فجاء في التيار ( الثلاثاء ٢٣ مارس) خبر عن تبرع غاية الإسراف للبرهان لمشروع مياه مدينة القضارف. فتكلف البرهان فرداً وعلى القريحة بدفع سبعين في المائة من تكلفة الحل الإسعافي لمياه القضارف البالغ ١٣٤ ألف دولار قيمة ٤ طلمبات سحب (٤٤ ألف دولار للمحطة)، و٢ طلمبة ضخ ( ٩٠ ألف دولار للطلمبة). وستتكفل المدينة بالباقي.

قولنا بوجوب مدنية الحكم هو من قبيل استئصال هذه “الفنجرة” الرئاسية. وهكذا عدنا القهقري عجالى إلى حكومة الرئيس المتبرع من تحت مخدته. وأذكر أنني أول ما أنتبهت للمخلوع البشير قبل انقلابه كان في تحقيق بجريدة “الراية” لسان حال الجبهة الإسلامية القومية بعد معركة خاضها في بلدة ميوم بالجنوب. ونوهت بقوة بكلمة له قال فيها، وحملات التبرع للجيش على قدم وساق، إنه يريد أن يرى من الشعب وقوفاً قوياً مع الجيش في حربه في الجنوب أما تمويله فذلك تبعة الدولة. وبالطبع نسى المخلوع عبارته الرشيدة. وكان دفاعه عن نفسه في المحكمة أخيراً أنه أنفق هدية أخوانه العرب على جهات في الدولة والمجتمع حددها فلا ضرر ولا ضرار.

فنجرة البرهان مما يسميه الخواجات قذف المال نحو المشكلة تطلب لها حلاً في حين المال ليس حلها الوحيد. فما أكثر المال الذي انقذف نحوها ولم تنحل. وكتب جعفر خضر يقول إن ماء القضارف كان مباءة تسيس سقيم وفساد طوال عهد الإنقاذ. فجنى منها الولاة كسباً سياسياً ولم يبطل تيمم القضارف. وكان فساد مشروع المياه موضوعاً لجماعة “القضارف ضد الفساد” كشفت الأكلة من وراء عقوده، وتعارض المصالح فيه مثل أن يكون عضواً بالمجلس التشريعي صاحب شركة في تنفيذ شبكة المياه، أو وزيراً مديراً لشركة تنفذ أجزاء من المشروع.

وبدا لي أن فنجرة البرهان ربما قذفت بالمال إلى الجهة الغلط. فبيان هذه الجماعة “القابضة” من البرهان سقيم. وتلمح من وراء الإطناب في الثناء على البرهان والطعن في الوالي لزوجة نفاق السماسرة التقليديين بين الهامش والمركز. ويصح هذا لأن ثمة خلاف قائم في الولاية حول المسألة. فقام حول الوالي “تجمع مبادرات حل مشكلة مياه القضارف” في الولاية. وقدر تكلفة المشروع بمبلغ ١٧٩ مليون جنيه سوداني. تكفل ديوان الزكاة ولاية القضارف بدفع مبلغ (٩٠) مليون جنيه سوداني بينما تكفلت وزارة المالية بدفع مبلغ (١٠٧) مليون جنيه بتصديق من والي الولاية. وأعلن تجمع المبادرات أن وفداً سيتجه إلى الخرطوم للجلوس مع الشركات والمقاول ووزارة السدود للشروع في تنفيذ المشروع.

بدت لي فنجرة البرهان استثماراً غير موفق في أزمة عاولة (قديمة) لم يأتها من باب السياسة وحسن الإدارة كما ينبغي بل من باب الكسب كيفما اتفق. فلو عزم على حل المشكلة حقاً لكرم الوالي، مرؤوسه، ببدء الحديث معه حولها لا إلى كل من هب ودب. ولوقف على ما يقوم به في الصدد وأعانه من هذا المال السائب. وقيل إنه يعلم السرقة. وقيل في من ملكه ما قيل في سيد الحنة مما لا يأتي على لسان كاتب.

اتركوا الفنجرة لتبدأ الدولة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.