في الخرطوم وما بعرف ود أب صفية
كتب: د.عبد الله علي إبراهيم
.
حين أسمع من مسلحي دارفور من دعم سريع وغير دعم سريع أن الخرطوم حقتهم أسأل نفسي ما المثير في الخرطوم الذي هفت له نفوسهم. فلا أعتقد أن من يجز شعرها شبابها تطفلاً هف إلى معنى في هده المدينة الكريمة. فلو جاء ب”الكاريه” الذي يزين رأسه الآن كأمر واقع إلى الخرطوم في عقود خلت لحلقت له رأسه صلعة نمرة خمسة. لقد تصالحت المدينة مع الكاريه وأبراهيم عوض والخنفسه وما لا أعرف من الموضات الجديدة بعد لأي. لم تعد زيانة الشعر مما يكترث لها أهلها. ولو احتل جماعة حديقة فيها فأشك أنها هفت لمعنى من الخرطوم. ففي حدائقها أزهر الفن والسياسة. ففي حديقة المقرن في نحو منتصف الأربعينات انعقد اجتماعان خرج من صلبهما الحزب الجمهوري والحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو). وكانت ليالي متنزهاتها تقول يا ليل بكبرياء الحقيبة.
لم يعرف هؤلاء المسلحون في الواضح من الخرطوم إلا الإنقاذ. لعنها الله. جماعة منهم حاربتها ولم تحسن الحرب. وجماعة أخرى حامت عنها ولم تحسن الحماية. وخرجت خرطوم ١٩٦٤ و١٩٨٥ في ٢٠١٨ لتبرهن على كذبهما جميعاً. فلا من أراد قتل الإنقاذ من فوق جبل قتلها ولا من أراد حمايتها من تاتشر حماها.
الخرطوم معنى لا جغرافيا أو عاصمة. أذكر أنها كانت عندي الندوة الأدبية في أم درمان لعبد الله حامد الأمين في أول تعلقي بالأدب في عطبرة. ثم كانت مركز الحزب الشيوعي ودارة عبد الخالق محجوب أول تعلقي بالشيوعية. وكنت كتبت قبل أيام عن باشتيل، من أهل هيا بشرق السودان، جاء الخرطوم في أوائل الستينات وقد جذبته بمعانيها التي هفت له. ولم أتوسع في الحكاية. وأعيد ما نشرته عنه هنا.
كنت أزور الاتحاد السوفيتي مع الشاعر الفحل المجذوب في ١٩٦٧. و”شَبَك” فينا رجل من جمهورية جورجيا زائراً لعاصمته. وتمنى لو كنا زرنا جورجيا لنعرف شيئاً عن الاتحاد السوفيتي لن نجده في موسكو. وكان طرباً بكاسات دهاقا. وربما كنا، ثم استجمع نفسه قائلا: “في موسكو برود. ولكنها العقل. فيها برود العقل”. وطرب المجذوب لكلمته. كان نقاداً يختار جياد العبارات. رحمه الله.
إلى باشتيل:
وقفت مجلة صوت المرأة، لسان حال الاتحاد النسائي، تبشر بالمعاني الذكية لجنس مهضوم لا حس له ولا وجود. وأسرت هذه المعاني جماعات من الناس وجعلوا المجلة قبلة ثقافية وسياسية لهم. وهذا ما يجازي به الناس مراكز الإشعاع وبؤر النهضة. وقد تذكرت بذلك كلمة من تحقيق من كسلا قام به الشيخ درويش في سبعينات القرن الماضي. قال إنه سأل طفلاً عن ما يعرفه عن الخرطوم. فقال “دار الأذاعة”. وعلقت على ذلك وقلت إن علي الإذاعة أن تفخر بأنها قد أصبحت عاصمة بمعني ما. وقد ركزت انتباهي خلال قراءتي لأعداد صوت المرأة علي كيف انها أصبحت عاصمة ما: عاصمة للتقدم يأوي اليها المسهدون به العاملون من أجله.
وأسرتني من بين كل رحلات هؤلاء المسهدين بالمعاني التي جسدتها صوت المرأة رحلة للمواطن باشتيل إبراهيم في نحو نوفمبر 1963 الي دارها. وباشتيل من البجة وعامل بالسكة الحديد بمحطة هيا. وقد جاء الي المجلة بصحبة طفلة في السابعة من عمرها حلوة هادئة دقيقة التقاطيع. وقدمها للمحررة، ست الجيل فاطمة أحمد إبراهيم، وقال إنها إبنته وأسمها فاطمة. وقال إنها محور صراع دائر في أسرته. فقد أراد لها باشتيل أن تتعلم والحقها بالمدرسة الأولية. ولم تقبل والدتها بذلك وقالت إن المدرسة مفسدة. ومال والده لصف زوجته. وتدخل الأهل لإثنائه عن خطته. وجادلهم بالحسني وقال إن دخولها المدرسة من إكمال الدين حتي تعرف ربها معرفة وثقي. ولم يتراجع عن عزيمته قيد أنملة. وتعرض للأذي من أهله. ففتحوا فيه بلاغاً عند الشرطة لانتزاعه البنت عنوة منه. ونجح في توضيح الأمر للشرطة وشطب البلاغ. وظل يقف يومياً بنفسه علي تعليم فاطمة. فهو يحميها ويسرح شعرها ويعد لها ملابسها المدرسية ويذاكر معها درس اليوم في المساء.
وكانت خشية باشتيل الكبري أن تنتكس بنته وتهجر الدرسة تحت تأثير بيئة البيت الكارهة للتعليم ومعارضة الأم التي سكنت معها. ولهذا قرر أن ينتهز فرصة إجازته السنوية ليأتي بها الي الخرطوم لتري بنفسها المتعلمات وجهاً لوجه حتي يرسخ حب التعليم في نفسها. وقد جاء بها برغم أنف أمها. وفي الخرطوم اصطحبها الي الحدائق العامة والمطار والإذاعة والمتحف وبعض المدارس. وقال إنه كان يشرح لها علي الطبيعة كيف شكل التعليم كل ما يدور حولها. وعندما زار صوت المرأة بدأ يحدثها عن المجلة والمحررات وصنعتهن التي هي بعض تعليمهن.
لم يحتطب باشتيل ليلاً حين غشي صوت المرأة. كان يعرف أنها الصوت الذي ما فتر يذكر الناس والدولة بضرورة تعليم المرأة. كانت افتتاحيات فاطمة أحمد إبراهيم تتحدث عن وأدنا للبنات بحرمانهن من التعليم. وكانت احصائيات نقص تعليمهن دامغة لا لبس فيها. وكانت المجلة تستبشر بكل تصميم علي التعليم. فحيت المجلة ناظرة في بلدة مسمار لترغيبها نساء البجة في التعليم. وحيت عطامنو وأباها الشيخ الذي علمها في مدرسة القرية مع الأولاد ثم جاء بها للخرطوم ليدخلها المدرسة الوسطي. فقبلتها الأحفاد مجاناً. رصدت صوت المرأة كل ذلك وبالصور التي كان زنكغرافها يكلف الشيء الفلاني. ولا بد أن باشتيل قرأ وشاهد كل ذلك. وألهمه ذلك توكلاً مضيئاً ليدفع مستحق التقدم. وقد صورته المجلة وابنته الحلوة الدقيقة التقاطيع شاهداً علي حجه المبرور لمنارة من منارات التقدم: صوت المرأة.