في ذكرى رحيل أمي
كتب جعفر عباس:
وأنا قلق على صحتي وصحة عيالي وسيف فيروس الكرونا مسلط على رقابنا، زارتني ذكرى أليمة، فقبل أحد عشرة سنة انتزعت المقادير كبدي وقلبي، وعشت دوامة من الحزن الغاشم، وبينما عيالي يقدمون لأمهم الهدايا قبل أيام قلائل بمناسبة عيد الأم تذكرت تلك الأمسية عندما بلغني أن أمي آمنة بنت العالم الفقيه ” فقير حامد “انتقلت من ظهر الأرض إلى باطنها، وعرفت عندها معنى اليتم، وحزنت على السنين التي أجبرتني ظروف طلب الرزق على فراقها، وأدركت كم ظللت طفلا متعلقا بأمي حتى بعد أن صرت أباً، فالحبل السري الذي ربطني بأمي لتسعة أشهر لم ينقطع قط، بل ظل يزداد متانة عبر السنين لأنها لم تكف قط عن تغذيتي بأشياء أكثر قيمة من البروتين والكالسيوم، وبالتالي لم تفطمني، ولا أنا أحسست يوما ما بأنني استطيع ان استغني عن “صدرها”، وبرحيلها عن الدنيا ضاعت مني “طفولتي”، وهرمت وشخت، وعزائي أنني كنت حاضرا في صلواتها ودعواتها وكان يبهجني ان أسمع منها المرة تلو الأخرى أنها راضية عني و”عافية عليك”، وكان ذلك دفعة معنوية تجعلني في تمام العافية النفسية.
أصيبت بعارض صحي ولزمت سرير المستشفى لثلاثة أيام، وعندما منحها الأطباء صك البراءة من تلك العلة وعادت الى البيت هاتفتها، وما أن أدركت أنني من يكلمها حتى أطلقت زغرودة ما زال صداها يتردد في أذني.. وكانت تلك الزغرودة آخر ما سمعته منها: هذا كرم من الله.. كم من الناس ودعتهم أمهاتهم بالزغاريد؟
كانت آمنة أمي وأبي لنحو عشر سنوات ظل خلالها والدي رحمه الله يضرب في الأرض طلبا للرزق.. زارتني لآخر مرة في العاصمة القطرية الدوحة وأنا اب لثلاثة من العيال ورأيتها تتسلل في ساعات الفجر الأولى إلى الغرفة المخصصة لي ولزوجتي، فأخبرها بأنني “قفشتها و.. يا حاجة عيب”.. ولكنها لم توقف التسلل بزعم أنني لا أغطي جسمي جيدا أثناء النوم لأحميه من لفحات البرد الاصطناعي الصادرة عن مكيف الهواء.. كان ذلك يسعدني ويعمق في دواخلي السعادة بأن لي أماً لا تزال تدلل فيَّ الطفل الرافض للفطام، ولا يعترف بأن قابلة قطعت الحبل السري الذي يربطه بأمه.
ولا أريد اليوم أن أحدثكم فقط عن أمي آمنة، وفقدي لها، بل عن أمهاتكم الأحياء.. لا تفرطوا في أنفسكم وفيهن.. لا تسهر خارج البيت في ظروف الكرونا الراهنة فإن ذلك يقتلها قلقا عليك، وكلما اشتريت قطعة ملابس جديدة لنفسك اشتر لها شيئا.. ولو برتقالة.. تذكر كيف أن أمك تعطيك أفضل قطع اللحم، بل ربما لا تأكل إلا بعد ان تطمئن الى ان الطعام المتاح يكفيك أنت.. حتى عند أكل البطيخ تتعمد تناول القطع الماسخة القريبة من القشرة.. لا تتحرج إذا كان عمرك 40 او 60 سنة من أن تضع رأسك في حجرها، وراقب كيف تسترخي جميع عضلات جسمك لمجرد ملامسة أصابعها جبهتك او فروة رأسك.. اطبع قبلة على رأسها وأنت خارج من البيت أو عائد إليه.. أحلف عليها ان ترتاح هي لتقوم أنت ببعض المهام التي تضطلع بها.. الأم الحقيقية رأسها “ناشف” وترى في الراحة تقصيرا في حق أسرتها، ولكن حتى اقتراح ان تقوم أنت ببعض الأعمال المنزلية التي “تحتكرها”.. ولو من باب البكش، يدخل في نفسها السعادة والرضا.
الأمومة هي المهنة/المسؤولية الطوعية الوحيدة التي لا تعرف الإجازات ولا التقاعد.. اعط أمك مكافأة نهاية الخدمة وهي في كامل عافيتها، ولا تجعل علاقتك بأمك بالكتالوج أو كالخطط الخمسية والعشرية التي تستخدمها الحكومات حيلة لتغطية خيباتها الآنية.. اعطها وخذ منها الحب بلا جدول زمني لأنك لا تعلم متى يحين دورك أو دورها في النزول من قطار الحياة.