في نجاعة التنمية المستدامة

0 91

كتب د. الوليد آدم مادبو:

كي يكون النموذج التنموي مُستداماً، عليه أن يكون مفيداً، فعالاً ومنتجاً من الناحية البنيوية، إذ لا يمكن لتنمية أن تحدث (دعك من أن تكون مُستدامة) في ظل الاختلالات الوظيفية. ومعلوم أن أصحاب النماذج التنموية الناجحة في القرن العشرين بدأوا، أول ما بدأوا، بالنظر جِدّياً في مخاطبة الظلامات التاريخية، حققوا تسوية وطنية قننت الحقوق الدستورية، ومن ثم انطلقوا لتصميم استراتيجيات التنمية الوطنية. وفي مسعاهم هذا، لم يقدس أصحاب النبل والنبوغ هؤلاء القديم، ولم ينبهروا بالجديد، لكنهم تفاعلوا قدر استطاعتهم مع التحولات العظمى التي جعلت مجتمعاتهم أكثر استيعاباً لقيم الحداثة التي طوقت الكرة الأرضية، ولم يعد هنالك مفر من تأثيراتها، كما كانوا أكثر استعداداً للتعامل مع الصدمات التي أحدثتها ظروف الانتقال الكبرى. ولئن ظل عالمنا مختلفاً يعاني من “فصام معرفي” كما يسميه الشاعر المكسيكي، أوكتافيو باز، فلأنه ظل بعيداً عن الصدمات الثلاث الكبرى التي صنعت الإنسان الحديث، كما يقول فرويد، فالطفرة في عالم الفلك فتحت مجالاً للثورة البيولوجية التي أعلمتنا أن الوظيفة تفوق العضو في علم الأحياء، والثورة المعرفية في العلوم الإنسانية، جعلت الإنسان موضوعاً للمعرفة، بعد أن كان ذاتاً خاملة تعزي إخفاقاتها للتغلبات القدرية. ما أعقب هذه اللحظة من فتوحات في علم الاقتصاد، خصوصا هو مثار اهتمامنا في هذه اللحظة التاريخية الفارقة التي كاد أن يستنفد فيها الكون طاقته للتنفس.

يتعرّض التوازن المادي والاجتماعي الأدنى المطلوب لوجود الحياة الحضرية والتماسك الاجتماعي، لأول مرة منذ فجر الإنسانية، للاهتزاز من فرط تفشّى الأنماط الاستهلاكية، وتعميمها بطريقة تهدد بتحول الحظيرة إلى غابة داروينية، تعزّز الميل السلبي الغريزي للإنسان الذي تعامل مع الآخرين، على أساس أنهم أنواع زائفة ضد البشر “ومع الطبيعة على أساس أنها ضيعة”، “إذا كنا ننشد الاستدامة، فيجب ألا نسعى إلى تطبيق نموذج تنموي جاهز غالباً ما يتعارض مع مقدّرات بلادنا” وليست أمانة أو هبة ربانية. بيد أن التعاطف الإنساني لمجموعة مع الأشخاص أو الجماعات لا ينشأ ضميرا أخلاقياً عالمياً، ولنا، فالواجب منح الأرستقراطية غير الحكومية (المتمثلة في الشركات عبر الوطنية) تمثيلاً دوليا مع عضوية كاملة في المنظمات الاقتصادية والمالية والبيئة الدولية، يجبرها على تحمّل التكاليف الإنسانية أو الاقتصادية التي ينطوي عليها حفظ السلام العالمي والمحلي.

نجاح الرؤية التنموية متوقفٌ على معرفتنا الإحداثية التاريخية التي تساعد على التنسيق بين بنية المجتمع الاقتصادي، بنية المجتمع الحقوقي، وبنية المجتمع الثقافي كما يُفَصِّلها بجدارة المفكر الإيراني داريوش شايغان في كتابه “النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا”. إن فاعلية الجذر القديم لا تنعدم لمجرد التحوّل الرؤيوي، بل يلزم تحول انتقالي للعقل من الإيمان بالأسس الثابتة للرؤية الجوهرية إلى الإيمان بالمسار التاريخي لتطور الأشياء. بمعنى آخر، لا بد أن نميز مجالنا الخاص عن مجال الألوهة، كي لا تغدو الأخيرة ضحية أهوائنا، وننعتق من ثم من هيمنة الأسطورات الوجودية.

وإذا نجونا من هيمنة الإبداع الديكارتي (على الأقل من ناحية المنهج)، ولم نتعرّض لتأثير عصر الأنوار والانتقاد (على صعيد الأفكار)، فقد ظللنا موقوفين في سديم التضمينات والأمنيات الصمّاء والتأوهات المكبوتة، بيد أن الحداثة التي اجتاحت فضاءاتنا الحدسية والمعرفية، كما التقنية التي هرعنا إلى امتلاكها من دون النظر في مضامينها الوجودية لن تكتفي بتبديل “الخيبة العذراء” التي كوناها عن أنفسنا، لكنها أيضاً ستكون سبباً في توليد الانكسارات والتشوهات في نفسيتنا. ولن يشفع لنا حينها جهلنا “بنسابة الأفكار المستوردة” فتلك ثغرة سيستغلها الوكلاء المحليون، لفرض ولايتهم أو تقنين حمائيتهم على مجتمعاتنا الساذجة والبريئة، وإذا شئت “الورعة التقية”. سنمتحن إمكانية هذه الادعاءات للتماسك، في ظل الاختلالات لاحقاً.

فيما كان روسّو يعتقد أن كل تطور للمجتمع هو مسار ارتهاني، ولن يتم التحرّر في مستوى التحول الوجداني، بل في مستوى تجدّد المجتمع ذاته، فإن الفلاسفة والمفكرين في عالمنا لا يدّخرون جهداً في محاولتهم لإخضاع الإرادة الجماعية لإرادة الفرد القائم على الفضيلة، والقمين على مصلحة الجماعة. لا يقتصر هذا المنطق الروسوي المغلوب على دائرة الثقافة، لكنه يَنْسرب سرّاً أو قسراً ليشمل دائرتي الاقتصاد والسياسة، مُحدثاً تصدّعات قد تهدّد بانهيار المجتمعات. هذه الانقطاعات أو التصدّعات سيتم تغطيتها بطريقة أشبه بالتصفيح الذي يشبه عملية استخدام قشرة طلاء رقيقة لإخفاء خشونة الأشياء، ما يعقب ذلك من فشل هو الكِلفة الحقيقة لهذا التصفيح.

فشل الثقافة في تحقيق العقلانية على مستوى البُنيات الوظيفية، والفاعلية الشخصية له صلة بما “الإنسان لم يعد مجرّد حامل سلبي لحمولاتٍ فكرية تائهة، بل أصبح ذاتاً واعية تقرّر في شوؤنها وتتحمّل نتائج خياراتها”يدفعنا إلى تجاهل الطبيعة التناسلية والسلالية للمفاهيم (شايغان، ص:39)، فالديمقراطية، كما يقول شايغان، هي ابنة الأنوار، والأنوار هي ذروة نتاج العقل الانتقادي الذي أبدع المفاهيم البنيوية، وحدد الخصائص الوظيفية في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، كما أنّ لذلك كله صلة بالتحول المنظاري للرؤية، من كونها تأملية إلى كونها اختبارية لا تركن إلى السكون، خشية التعرّض للاختلالات المعرفية والجمالية والنفسية (انظر تجربتي أينشتاين وبيكاسو في الكتاب آرثر آي. ميلر “أينشتاين، بيكاسو: المكان والزمان والجمال الذي ينشر الفوضى”)، بل تتحفز للإفادة من الطاقة التي تكتنزها تلك اللحظات الحرجة. كل الانسجامات، كل المفاتن والمواربات التي تدوزن عادة إيقاع “نظرية التنمية المستدامة”، يجب فحصها لصالح تبني نموذج تفاعلي وسيط، لا يقنن لهيمنة النظام العالمي، كما لا يقنع بالنظام القِبْلي الذي تجاوزته الحداثة، فلم تعد تجدي الوصفة الرغائبية للتنمية، ولا تلكم الطوباوية التي تؤله العقلانية التكنولوجية، فالإنسان لم يعد مجرّد حامل سلبي لحمولاتٍ فكرية تائهة، بل أصبح ذاتاً واعية تقرّر في شوؤنها وتتحمّل نتائج خياراتها.

وإذا كنا ننشد الاستدامة، فيجب ألا نستورد، وألا نسعى مطلقاً إلى تطبيق نموذج تنموي جاهز غالباً ما يتعارض مع مقدّرات بلادنا الطبيعية والحيوية. إن الاستعمال الالتباسي المتداول لمصطلح الاستدامة قد أفرغ التنمية من مضمونها الوجداني الثقافي والحقوقي، وجعلها مجرّد غنائية تردّدها ببغاءات المنظمات الإقليمية والدولية الذين يلقبون بالتكنوقراط. إن الارتهانات ونزع الطابع الأخلاقي والإنساني عن نماذج التنمية قد لا يعيق فقط إمكانية دول العالم الثالث للانطلاق، إنما أيضاً قد يتسبب في إحداث كوارث بيئية واجتماعية.

عجز الدولة عن تطوير قدراتها التكنولوجية بتوفير البنية التحتية، وتوسيع حجم السوق المحلية، ضمان الأمن القانوني والاستقرار السياسي قد حرمها فرصة جذب الاستثمار الأجنبي اللازم لرفع الإنتاجية الزراعية أو الصناعية. وقد يبدو المنطق دائريا، فالعجز عن جذب الاستثمار هو الذي أقعد الدولة عن القيام بدورها في توفير فرصة حقيقية تتجاوز “خرافة التنمية” التي تمثلت في قبول مبدأ التعافي الإعجازي (أزوالدو دي ريفيرو، خرافة التنمية، ص، 152). في غياب “إذ ظلت مجهودات المجتمع المدني تفتقد التنسيق، فإنها حتماً ستواجه التهميش، الأمر الذي سيعزلها عن المنابر السياسية والحوارات الثقافية والدورة الاقتصادية”الإرادة السياسية للإصلاح وضعف السياسية الإدارية، قد تستحيل الرؤية الاستراتيجية للتنمية المستدامة 2030 إلى مثيلتها من “أهداف الألفية” التي أضحت بمثابة وثائق أدبية دست في أضابير الخبراء العالميين والوطنيين. وقد كانت الشراكة (الغائبة حينها) كفيلة بتفعيل قنوات الشفافية والمحاسبية وتقنين سبل التواصلية/ التداولية بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. بيد أن محاولة النظام الاقتصادي العالمي لاستمالة النخب الاقتصادية المحلية، مستخدمة أساليب ناعمة وأخرى خشنة قد حرم بلدانا كثيرة نامية من فرصة استشراف وضع اجتماعي وسياسي ينتج أقصى حد من الانبثاقات والإبداعات، ويفرض أدنى حد من الضغوط.

وإذ ظلت مجهودات المجتمع المدني تفتقد التنسيق، فإنها حتماً ستواجه التهميش، الأمر الذي سيعزلها عن المنابر السياسية والحوارات الثقافية والدورة الاقتصادية. وبالتالي سيفقد المجتمع المدني (العالمي والمحلي) أدوات مهمةٍ ومهاراتٍ كان سيكتسبها لغرس ثقافة الحوكمة، تحديث وتطوير نظم التخطيط الاستراتيجي المبني على النتائج، وتأطير سبل التواصل مع العالم الخارجي. لطالما بقي الأمل بالله والإيمان بمستقبل أفضل للبشرية يمثلان الجبهة الخلفية والعمق الوجداني الحقيقي لقدرة شعوب العالم على الصمود والاستمرار في مقاومة عقيدة “الفوضى الخلاقة”، فإن المعول يبقي على تخرج نخبة كوزموبوليتانية مدركة، واعية، وعازمة على خوض المعترك السياسي التنموي مدنيا وسلميا، إذ المعركة تدور رحاها في الذهن، وذلك من خلال الاعتماد على التدافع الحيوي الذي لا يهمل التجليات الفكرية والروحية، كما لا يغمط التجربة العلمية، العملية والواقعية، دورها في جبر وحدة المصير الإنساني، وتحقيق غايته من الازدهار والنماء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.